شركات التأمين توجه بوصلتها للأسواق الأقل خطورة والانتقال إلى الاقتصاد الأخضر
خلال الأعوام الماضية ورغم التطورات الجذرية والمتلاحقة في النظام الاقتصادي والمالي العالمي، أظهرت شركات التأمين درجة عالية من المرونة بإجراء تغييرات واسعة النطاق بوتيرة سريعة في هياكلها وأنماط نشاطها فاقت التوقعات الأولية في هذا الشأن.
بل إن الصناعات التأمينية أثبتت جدارة في التعامل مع التطورات غير المتوقعة.
وفي الحقيقة فإن هذا الوضع أوجد مناخا تفاؤليا حول مسارها المستقبلي، وأنها مهيأة لفترة جيدة من النمو، بصرف النظر عن تحديات الاقتصاد الكلي واتجاه عديد من الدول إلى إعادة هيكلة اقتصادها بشكل هائل، وتصاعد المنافسة الشرسة بين الدول أو الشركات لاكتساب مزيد من الأسواق، إضافة إلى التحركات السريعة في مسار الاقتصاد العالمي الناجمة عن المد التكنولوجي وما يخلفه من اضطرابات في الأسواق في بعض الأحيان.
وجاءت جائحة كورونا، وأظهرت سبب أهمية صناعة التأمين، ليس فقط لمصلحة الاقتصاد العالمي وزيادة عافيته المالية، لكن لحماية ما يثمنه الأشخاص ويعتقدون أنه جدير بالتأمين، حيث بات كثير من الاقتصاديين على ثقة حاليا بأن القرارات والإجراءات التي يتخذها اليوم صانع القرار السياسي والاقتصادي ستؤثر بشكل ما في صناعة التأمين ومستقبلها.
كانت تلك هي القناعات السائدة حتى أخذت الأزمة الأوكرانية منحنيات أكثر حدة، وبدأت طبول الحرب تقرع هنا وهناك. وظهرت عوامل ومتغيرات جديدة ربما لم تبدل المشهد التأميني كاملا، لكن من المؤكد أنها وضعت عليه ضغوطا لم تجعله بالسلاسة السابقة ذاتها.
شركات التأمين الكبرى سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا تريد تجنب تغطية الأضرار التي يمكن أن تحدث إذا ما اندلعت الحرب، خاصة الأضرار الناجمة عن الهجمات السيبرانية التي حذر المسؤولون الأمريكيون من أن الجانب الروسي قد يقوم بها، التي تسببت في مرات سابقة في خسائر ضخمة، كما حدث في هجوم إلكتروني تعرضت له أوكرانيا 2017 وانتشر دوليا حينها، ملحقا أضرارا قدرت بمليارات الدولارات.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" جوشوا فيليب الأستاذ المساعد في الدراسات التأمينية في جامعة أكسفورد، "الحقائق الجيوسياسية وديناميكيات ما بعد الجائحة تعني أن عولمة صناعة التأمين قد تبدو مختلفة إلى حد ما في عشرينيات القرن الـ21 مقارنة بما كانت عليه سابقا، فشركات التأمين المحلية خاصة في الاقتصادات الناشئة باتت تمثل تحديا لشركات التأمين الدولية، وارتفاع التوترات السياسية يضفي على الفرص والتحديات طابعا عالميا، وباتت فرص الاستثمار محركا رئيسا لتوحيد صناعات التأمين".
لكن نمو شركات التأمين المحلية أو ذات الطابع الإقليمي، لا ينفي ما يقوله البروفيسور إل.دي. مارتن أستاذ حسابات المخاطر في معهد لندن للتأمين، إذ يرى أن شركات التأمين ومقدمي رأس المال في الأسواق المتقدمة لن يتوقفوا عن السعي بحماس لاقتناص مزيد من الفرص في الأسواق الناشئة.
ويصف لـ"الاقتصادية" اتجاهات الصناعات التأمينية في العام الجاري بالقول، "ستقلص شركات التأمين الدولية مناطقها الجغرافية لإعادة التركيز على مجموعة محددة من الأسواق الرئيسة، وسنشهد هذا العام مزيدا من عمليات الاندماج والاستحواذ، وسيبحث المستحوذون على فرص تدعم شركاتهم الأم، سواء عبر طبيعة الأعمال والأنشطة التأمينية أو عبر توجيه بوصلتها نحو المناطق الجغرافية الأقل خطورة".
ويعتقد إل.دي مارتن أنه على الرغم من تراجع جائحة كورونا "فإننا سنشهد اتجاها أكبر من قبل المستهلكين والحكومات في الدول المتقدمة والناشئة على حد سواء نحو التأمين، ويمنح هذا الشركات خاصة الجديدة فرصة جيدة لتقديم مزيد من المنتجات والخدمات إلى الأسواق، بما يعنيه ذلك من مزيد من المنافسة بين شركات التأمين".
في الواقع فإن شركات التأمين كعديد من الشركات في الصناعات الأخرى تتحرك بين سندان الخوف ومطرقة الرغبة في تحقيق أرباح مرتفعة، والتحذير في الأسابيع الأخيرة من مخاطر الهجمات الإلكترونية يجعل شركات التأمين الكبرى في مسعى لاقتناص اللحظة سواء برفع أسعارها أو الإبقاء علي أسعارها ثابتة مع تجنب تغطية الهجمات الإلكترونية، ما يفتح الطريق للشركات الأخرى التي تعمل على نطاق محلي لطرح نفسها كبديل في مسعى لتوسيع نطاق عملها وعملائها.
مع هذا ترى روز جيمس الخبيرة التأمينية في شركة جرين فلاج أن التحدي الأكبر الذي سيواجه قطاع التأمين على المستوى العالمي هذا العام، هو ترافق ارتفاع معدلات التضخم مع عدم حدوث تغيرات جذرية في أسعار الفائدة البنكية.
وتؤكد لـ"الاقتصادية" أن الزيادة السريعة في الطلب على السلع والمواد والأيدي العاملة إضافة إلى الاضطرابات في سلاسل التوريد أدتا إلى زيادة المطالب التعويضية لشركات التأمين سواء من الأفراد أو الشركات، وإذا استمر هذا الوضع فإن خسائر شركات التأمين قد تراوح بين 15 و20 مليار دولار هذا العام.
تشير تقديرات كبرى لشركات التأمين الدولية إلى أن صناعة التأمين العالمية ستصل إلى رقم قياسي جديد بحلول منتصف العام الجاري، وبما يتجاوز سبعة تريليونات دولار، بما يعكس زيادة الوعي بالمخاطر وزيادة الطلب على الحماية، إضافة إلى شكوك الشركات الدولية بأن الاقتصاد الدولي قادر على حل أزمات سلاسل التوريد قريبا.
وفي الواقع فإن من أبرز الاتجاهات التي ستسهم في تشكيل أسواق التأمين هذا العام التغير المناخي والرقمنة الاقتصادية، ولا شك أن نهج المجتمعات للانتقال إلى الاقتصاد الأخضر يفتح آفاقا واسعة لصناعة التأمين من خلال استيعاب خسائر الكوارث وتعزيز استثمارات البنية التحتية المستدامة، يضاف إلى ذلك اعتماد التقنيات الرقمية التي تلعب دورا مهما في زيادة نمو الإنتاجية العالمية.
ويعول كثير من الخبراء في قطاع التأمين على أن تستفيد شركات التأمين من إنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي لتطوير ملفات مخاطر فردية أكثر تفصيلا، ما يسهم في انتعاش عديد من أنشطة التأمين، كما يمكن أن يؤدي التعاون بين شركات التأمين التقليدية وشركات التأمين المتخصصة في التكنولوجيا إلى ظهور نماذج جديدة ومزيد من التدفق في الإيرادات وربحية أعلى وخفض تكاليف التشغيل.
بدوره، يقول لـ"الاقتصادية" أيد بيتر الخبير في مجال التأمين الشخصي، "الاقتصاد الرقمي يكتسح المشهد مدفوعا بجيل جديد من المستهلكين والبيانات والأتمتة والذكاء الاصطناعي. هذا الاقتصاد الرقمي سيجعل العملاء يفضلون أنواع التأمين الشخصية التي تتم صياغتها لهم خصيصا بدلا من المنتجات ذات الطبيعة العامة والمتاحة للجميع، فالفهم الأعمق لسلوكيات العملاء سيؤدي بفضل الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي إلى تقييمات أكثر دقة للمخاطر، وأقساط شخصية أكثر ملاءمة للعميل".
ويضيف "هذا العقد سيشهد مزيدا من عمليات الأتمتة في مجال التأمين، خاصة مع تزايد القدرة على معالجة البيانات بشكل أفضل والتقدم في خوارزميات الذكاء الاصطناعي، بما يقضي على الوسطاء والأعمال الورقية، وسيؤثر الذكاء الاصطناعي والأتمتة بشكل كبير في الصناعات التأمينية، ويحسن نتائج الأعمال".