أسعار الأسمدة تنذر بمشهد زراعي عالمي جديد .. 210 مليارات دولار حجم السوق في 2027

أسعار الأسمدة تنذر بمشهد زراعي عالمي جديد .. 210 مليارات دولار حجم السوق في 2027
أسعار الأسمدة تنذر بمشهد زراعي عالمي جديد .. 210 مليارات دولار حجم السوق في 2027

عندما نتحدث عن صناعة الأسمدة العالمية، فنحن نبحث بشكل مباشر وغير مباشر ملف الإنتاج العالمي من الغذاء، ومستويات الأسعار ومعدلات الإنتاج، بل إن البحث في أوضاع صناعة الأسمدة يأخذنا تلقائيا للتعرف على انعكاساتها على مستوى معيشة مئات الملايين من المزارعين وأسرهم حول العالم.
وسواء شئنا أم أبينا، فإن آثار صناعة استراتيجية بهذا الثقل على أعباء التكلفة المالية التي يتحملها سكان المدن في إنفاقهم على الطعام، وكيف يقلص ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية معيشة أبناء الطبقة المتوسطة، سيكون محورا رئيسا عند الحديث عن الصناعة ومستقبلها اليوم أوضاع صناعة الأسمدة وأسعارها باتت القضية المحورية في أحاديث مزارعي الذرة والبن من أمريكا الجنوبية إلى مزارعي جوز الهند في جنوب شرق آسيا، ناهيك عن أنها باتت الشغل الشاغل للفلاحين في إفريقيا حتى نظرائهم في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، فالأسعار المرتفعة للأسمدة تؤثر في المزارعين في جميع أرجاء المعمورة، خاصة في الاقتصادات النامية، فمع ارتفاع تكلفة المدخلات الزراعية تتأثر القدرة الإنتاجية للمزارعين سلبا، والمتوقع حاليا أن ترتفع الفاتورة الغذائيةـ إثر هذا العام، أخذا في الحسبان أن أسعار المواد الغذائية العالمية ارتفعت العام الماضي إلى أعلى مستوى لها خلال عقد من الزمان.
وارتفاع أسعار الغذاء يعني باختصار زيادة عدد الجوعى حول العالم، بما يرافق ذلك من توجيه مزيد من المخصصات المالية لدعم المواد الغذائية، وما يرتبط به من تنامي الضغوط على الميزانيات العامة، في أوقات تحول فيها التضخم من شبح يحلق في الأفق الاقتصادي إلى واقع يومي يئن منه الجميع.
ووفقا للبيانات الصادرة عن المركز الدولي لتطوير الأسمدة، فإن الارتفاع في أسعار الأسمدة قد يؤدي إلى انخفاض الطلب عليها في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء 30 في المائة هذا العام، وسيترجم هذا على أرض الواقع- وفقا لتقديراتهم- إلى خسارة في إنتاج الغذاء تعادل احتياجات 100 مليون شخص.
ويقول لـ"الاقتصادية" الدكتور مارتن لال أستاذ أنظمة الزراعة المستدامة في جامعة ويلز ترينتي للاقتصادية "سوق الأسمدة العالمية بلغ نحو 171 مليار دولار في 2020، وسينمو بمعدل سنوي 2.4 في المائة من 2021 إلى 2027، ويتوقع أن يبلغ سوق الأسمدة العالمية بحلول 2027 نحو 210 مليارات دولار".
ويشير الدكتور لال إلى أن الزيادات في الأسعار تنبع جزئيا من تكلفة الضغوط الدولية على أسواق الطاقة العالمية، حيث بلغ متوسط سعر الغاز الطبيعي في أوروبا في الربع الأخير من العام الماضي عشرة أضعاف ما كان عليه 2020، ويستند الدكتور مارتن لال إلى بيانات البنك الدولي، التي أشارت إلى أن مرافق إنتاج النيتروجين تعتمد بشكل كبير على الغاز الطبيعي لتحويل المواد الخام الكيمائية إلى منتجات نهائية.
وأكد أنه من أجل ذلك غالبا ما تتدفق الزيادات في أسعار الغاز الطبيعي إلى تكاليف الأسمدة، وقد أدى ذلك إلى تقليص المنتجين الرئيسين مثل الصين وتركيا ومصر وروسيا الصادرات في النصف الثاني من العام الماضي، ما أدى إلى زيادة الأسعار العالمية، إلا أن البعض يحمل الأولمبياد الشتوية، التي تستضيفها الصين جزءا من الأزمة الراهنة في صناعة الأسمدة العالمية ويضيف الاستشاري السابق في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "الفاو" قائلا: "علقت بعض شركات إنتاج الأسمدة الرئيسة في الصين صادراتها، لضمان الإمدادات في السوق المحلية بعد أن وصلت الأسعار إلى مستويات قياسية، وقد أدى ذلك إلى تفاقم النقص في الإمدادات العالمية، والصين منتج رئيس للأسمدة التي تزود قطاع الزراعة باليوريا والفوسفات، وتوفر مدخلات حيوية لإنتاج الذرة وفول الصويا في أمريكا الشمالية والجنوبية".
ويستدرك "كما أن مصانع اليوريا في الصين تنشغل بحملة بكين لضمان سماء زرقاء لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية، وقد تضمن ذلك إصدار تعليمات بإغلاق المصانع للحد من تلوث الهواء، كما طلب من ثلاثة مصانع في مقاطعة شانشي الشمالية العمل بـ 50 في المائة من طاقتها، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار المحلية للأسمدة، ودفع ذلك بالحكومة إلى وقف الصادرات، ما أثر في الأسعار في السوق العالمية".
ويعتقد البعض أن التوترات الجيوسياسية على المستوى العالمي تلقي أيضا بظلال وخيمة على وضع صناعة الأسمدة عالميا، فعقوبات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على روسيا البيضاء، التي تنتج نحو 20 في المائة من الإنتاج العالمي من البوتاس، وهو مكون رئيس للأسمدة المعدنية دفع بشركة يارا إنترناشيونال النرويجية- وهي إحدى أكبر شركات تصنيع الأسمدة في العالم- إلى الإعلان عن خفض إنتاجها بحلول شهر نيسان (أبريل) المقبل.
ويشير بعض الخبراء بأن الأوضاع في سوق الأسمدة العالمية قد تشهد مزيدا من الضغط إذا أخذ الصراع الروسي الأوكراني منحنيات عنيفة، وفرض الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عقوبات على روسيا، التي تعد أحد المنتجين البارزين لعديد من المواد التي تستخدم في صناعة الأسمدة.
ولا تنفي فلورا روبرت، مديرة التسويق في شركة سي دي البريطانية للأسمدة، تأثير ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي على تقيد العملية الإنتاجية، لكنها تعد أن اختناقات سلاسل التوريد ونقص إعداد سائقي الشاحنات فاقمت من حدة الوضع، فعلى سبيل المثال في المملكة المتحدة أغلقت مصانع الأسمدة لنقص إمدادات ثاني أكسيد الكربون نتيجة الارتباكات الكبيرة في سلاسل التوريد. وتشير لـ"الاقتصادية" أن المشكلة قد تتفاقم في أوروبا وتحديدا في فرنسا أكبر منتج للقمح في الاتحاد الأوروبي لاحتمال عدم توافر الأسمدة في الربيع المقبل بغض النظر عن الأسعار.
لكن عديدا من اتحادات المزارعين حول العالم ترى أن شركات صناعة الأسمدة تقوم برفع الأسعار بشكل مصطنع، بل وصل الأمر في الولايات المتحدة إلى قيام بعض التنظيمات الزراعية بمطالبة وزارة العدل الأمريكية إلى فتح تحقيق رسمي في التلاعب المحتمل بالسوق من قبل شركات الأسمدة، بدعوى أن الشركات قامت بزيادة الأسعار بعد أن شهدت أن أسعار المحاصيل ارتفعت وأن المزارعين حققوا أرباحا جيدة من وراء ذلك بالطبع رفضت شركات الأسمدة تلك الاتهامات وألقت باللوم على تقليص الصادرات ومشكلات الإنتاج الأخرى. وتزداد الأزمة حدة في الوقت الراهن في الاقتصادات الناشئة إلى الحد الذي دفع بالرئيس البرازيلي إلى التصريح بأن بلاده– أحد أهم منتجي عديد من المحاصيل الزراعية في العالم- تواجه خطر نقص الأسمدة في العام المقبل، بما لذلك من انعكاسات سلبية على المشهد الغذائي العالمي.
ويدفع ارتفاع أسعار الأسمدة إلى مشهد زراعي جديد في عديد من البلدان المتقدمة والناشئة على حد سواء.
ويوضح لـ"الاقتصادية" الدكتور بيتلر إيوان، أستاذ زراعة المحاصيل الزراعية في جامعة جلاسكو، أن أسعار الأسمدة زادت في بعض البلدان بنحو الضعف العام الماضي، ما أحبط المزارعين حتى في البلدان المتقدمة، حيث القدرة المالية والأنظمة الائتمانية والتمويلية أقوى، مقارنة بالاقتصادات الناشئة والبلدان الفقيرة، خاصة أن الأسمدة تعد عادة من بين أكبر النفقات الزراعية التي يتحملها القطاع الزراعي، ودفع ذلك بعديد من المزارعين إلى تعديل خططهم الزراعية، عبر التحول إلى زراعة محاصيل أقل كثافة في استخدام الأسمدة مثل فول الصويا، بينما سيقوم آخرون بتقليص إجمالي استخدامهم للأسمدة، ما قد يقلل إنتاج الحبوب تحديدا".
مع هذا يرى المهندس ديفيد كابلدي الاستشاري في المركز الدولي لتطوير الأسمدة، أن الأزمة الراهنة في صناعة الأسمدة أزمة مؤقتة، بينما المشكلة الأكبر تكمن من وجهة نظره في حاجة الصناعة إلى إعادة الهيكلة على المستوى الدولي ويقول "قبل بضعة أعوام لم يكن أحد يشكك في دور الأسمدة المعدنية، حيث توفير الغذاء هو الشغل الشاغل للجميع، لكن في الأعوام الأخيرة بات هناك استخدام مفرط للأسمدة، وفي بعض الحالات استخدمت أسمدة ذات معايير أقل من المعايير العالمية، وتراجعت الكفاءة الإنتاجية لدى بعض المنتجين، ولم تطور القدرة الإنتاجية أو وسائل الإنتاج، ما أدى إلى زيادة استخدامهم للغاز الطبيعي، يضاف لذلك الأنظمة الائتمانية الضعيفة في عديد من الاقتصادات الناشئة والقيود الائتمانية واستخدام تقنيات زراعية عفا عليها الزمن، كل هذا يتطلب من صناعة الأسمدة التكاتف لمواجهة تلك التحديات وتطوير استراتيجيات جديدة قادرة على فهم الواقع الزراعي الجديد".

الأكثر قراءة