الصراع الروسي - الأوكراني ينذر بأزمة في سوق الحبوب العالمية .. الأسعار ترتفع

الصراع الروسي - الأوكراني ينذر بأزمة في سوق الحبوب العالمية .. الأسعار ترتفع

مع تزايد تعقيدات الأزمة الأوكرانية، وتفاقم الوضع وتدهوره، وبقاء باب الصراع مفتوحا على مصراعيه للاحتمالات كافة، ومع احتمال اتساع نطاق الاشتباكات بين الانفصاليين في شرق أوكرانيا من جانب والحكومة المركزية في كييف من جانب آخر، خاصة بعد أن قويت شوكة القوى الانفصالية مع اعتراف موسكو رسميا باستقلالهما، فإن التداعيات الاقتصادية للأزمة سريعا، ما تركت بصماتها على الأسواق الدولية.
أسواق الحبوب الدولية تحديدا كانت في مقدمة الأسواق، التي عانت تقلبات متواصلة منذ أن طفت الأزمة على سطح الأحداث الدولية.
أحد الأسباب وراء ذلك يعود إلى ذكريات 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، إذ أدت المخاوف حينها بشأن انقطاع الامدادات من أوكرانيا، التي تعرف بسلة غذاء أوروبا إلى ارتفاع أسعار القمح بنحو 25 في المائة في غضون شهرين.
تأرجحت أسعار القمح ارتفاعا وهبوطا مع كل تصريح أو تعليق رسمي بشأن تطورات الأحداث، وتتباين التقديرات بشأن صادرات روسيا وأوكرانيا معا من القمح، فوزارة الزراعة الأمريكية تشير إلى نسبة 29 في المائة، بينما يقدر مرصد التعقيد الاقتصادي OEC تلك النسبة بنحو 25.4 في المائة عام 2019.
ويعد البحر الأسود بمنزلة قناة رئيسة لشحنات الحبوب الدولية، كما أن أوكرانيا من بين أكبر مصدري الذرة في العالم، وتحتل المرتبة الرابعة بين المصدرين، وتحظى بما يقرب من 22 في المائة من التجارة الدولية، كما أنها أكبر مصدر لزيت عباد الشمس في العالم، تليها روسيا في المرتبة الثانية، يضاف لذلك الشعير وبذور اللفت.
عادة ما تكون أسعار السلع الزراعية أقل تقلبا بكثير من أسعار الأسهم أو النفط، لكنها تتعرض الآن لارتفاعات وانخفاضات هائلة، نتيجة تلك الأزمة، ففي الأسبوع الماضي وفي أقل من 24 ساعة تحولت أسواق الحبوب عدة مرات من الارتفاع إلى الانخفاض وبالعكس.
وفي بدايات الأسبوع ومع اللهجة المتفائلة لسيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي بشأن حلول تلوح في الأفق، انخفضت أسعار القمح، لأن الأسواق قرأت المشهد بأن شبح الحرب يبتعد، ساعات وكانت أنباء نقل الولايات المتحدة سفارتها من كييف، بمنزلة إعلان بأن الحرب باتت على الأبواب، فقفزت أسعار القمح إلى مستويات هائلة، لكن إعلان موسكو سحب جزء من قواتها من الحدود مع أوكرانيا أعاد التفاؤل للأسواق وانخفضت الأسعار مجددا.
هذا الوضع لم يدم طويلا، إذ سريعا ما نشرت الولايات المتحدة صورا من الأقمار الصناعية بأن الادعاء الروسي محض هراء، ومعه ارتفعت الأسعار مجددا وإلى مستويات غير مسبوقة.
تفاعلت أسعار الحبوب مع الوضع الجيوسياسي الراهن، وارتفعت العقود الآجلة للقمح لتقترب من أعلى مستوى لها في تسعة أعوام في شهر نوفمبر الماضي، وعلى الرغم من تراجعها بعض الشيء في شهر يناير، فإن العقود الآجلة للقمح في بورصة شيكاغو على سبيل المثال ارتفعت بأكثر من 7 في المائة، بينما يتم تداول العقود الآجلة للقمح في البورصة نفسها هذا الشهر بارتفاع 20 في المائة، كما ارتفعت العقود الآجلة للقمح الأوروبي، التي يتم تداولها في باريس، حيث فرنسا أكبر منتج أوروبي للقمح، ما يقارب 6 في المائة.
وهنا يقول لـ"الاقتصادية" الدكتور آر. إم اندي، أستاذ الاقتصاد الزراعي في جامعة لندن، إن الصراع الروسي الأوكراني حتى إن كان محدودا، فإنه سيتسبب بلا شك في أضرار بالبنية التحتية الزراعية لأوكرانيا، مبينا أن تلك الأضرار حتى إن كانت طفيفة فإنها ستؤدي إلى ارتفاع الأسعار بنسبة تراوح بين 10 و20 في المائة في أسواق الحبوب القادمة من البحر الأسود.
ويضيف اندي، أن مناطق زراعة القمح في أوكرانيا ومواني التصدير الرئيسة تقع في جنوب وشرق أوكرانيا، ما يجعلها قريبة من الأراضي، التي تسيطر عليها روسيا، وتعد منطقة خاركيف الأوكرانية، التي تقع على حدود كل من روسيا والمناطق، التي يسيطر عليها الانفصاليون أكثر مناطق القمح إنتاجية في أوكرانيا.
ويعتقد أن الخطر الحقيقي، الذي يمكن أن يجعل تلك الأزمة تتسبب في أزمة غذاء عالمية، أن يطول الصراع الموانئ الأوكرانية، وهنا سيواجه العالم مشكلة حقيقية ستمتد لأعوام، فحتى لو واصل الأوكرانيون إنتاج القمح فسيكون من الصعب عليهم تصديره، مع الوضع في الحسبان أن 90 في المائة من صادرات الحبوب الأوكرانية تنقل عن طريق البحر.
لكن عددا من الخبراء يحذرون من أن استمرار الأوضاع الراهنة على ما هي عليه، دون أن يكون هناك تغييرات في المشهد العام سواء بالسلب أو الإيجاب ستنعكس سلبا على سوق القمح الروسي والأوكراني، إذ أحيانا يكون انتظار انفجار الموقف أسوأ من انفجار الوضع فعليا، إذ تكون توقعات الأسواق أسوأ في فترات الانتظار، مقارنة بسلوكها عندما تقع الواقعة.
وفي فترات الانتظار الطويلة يصعب على المشترين عقد صفقات جديدة، لصعوبة تنبئهم بمسار الأحداث، وعدم ثقتهم بقدرة المصدرين على تلبية وتنفيذ الاتفاقيات الموقعة إذا ما انفجر الوضع.
وعلى الرغم من أن التدفقات الفعلية للحبوب وتحديدا القمح الروسي والأوكراني لم تتأثر بشكل مباشر حتى الآن، فإن قلق المشترين من ارتفاع تكلفة الشحن، يدفع المشترين إلى البحث عن مصادر أخرى.
من جانبه، يقول الفاو مارتن روبرت، الاستشاري السابق في منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، إن "التجار الأمريكيين يتوقعون أن يؤدي الصراع الروسي الأوكراني إلى إيجاد فرص لتوسيع حصتهم في سوق التصدير، والمزارعون الرئيسون في سوق القمح مثل أستراليا وفرنسا مستعدون للحلول محل روسيا وأوكرانيا".
لكن بغض النظر عن التأثير المتوقع للأزمة الأوكرانية على سوق القمح العالمية، فإن السوق ستواصل النمو في الأعوام المقبلة، ووفقا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة الصادر قبل أيام حول إمدادات الحبوب والطلب، فإن "شهر يناير الماضي شهد ارتفاعا عالميا في إنتاج القمح ويعود ذلك إلى أن الإنتاج في الأرجنتين وأستراليا كان أكثر من المتوقع، إلى جانب ارتفاع توقعات الإنتاج بشكل بسيط في الاتحاد الروسي وأوكرانيا".
وأكدت الفاو أن تقديرات الإنتاج العالمي من القمح في العام الماضي تساوي تقريبا حجم الإنتاج في 2020، بينما تتوقع المنظمة الدولية أن المساحة العالمية المزروعة بالقمح لن تزداد إلا بشكل معتدل هذا العام في ظل توقع ارتفاع أسعار المدخلات، ما سيحول دون حدوث توسع كبير، ولكن نتيجة لارتفاع أسعار القمح زادت كميات القمح المزروعة في الولايات المتحدة للعام الثاني على التوالي، ومن المتوقع أن تشكل أكبر مساحة مزروعة خلال الأعوام الستة الماضية".
من ناحيتها، تقول الدكتورة روزي أوهارو أستاذة النظم الزراعية في المعهد العالي للزراعة، إن القمح هو ثاني أكبر الحبوب في العالم على أساس المساحة المزروعة وإجمالي حجم الإنتاج.
وأضافت لـ"الاقتصادية" أن حجم الإنتاج العالمي من القمح بلغ أكثر من 772 مليون طن متري في العام التسويقي 2020/ 2021، بزيادة عشرة ملايين طن، مقارنة بالعام السابق، كما ارتفعت مخزونات القمح إلى نحو 294 مليون طن متري في جميع أنحاء العالم بحلول 2021، بينما الأرقام المتاحة عن حجم الاستهلاك تشير إلى أنه بلغ 734.7 مليون طن متري 2020، ومن المتوقع أن ينمو الاستهلاك بمعدل سنوي قدره 2.7 في المائة خلال الفترة من 2022 إلى 2027 ليصل إلى 861.5 مليون طن متري بحلول 2026.
وأشارت إلى توسع الطلب العالمي على القمح مع النمو السكاني والتحسن المدفوع بزيادة الدخل في مؤشرات جودة الحياة.
ويمكن أن يؤدي الوضع المتوتر في أوكرانيا إلى انكماش مخزونات القمح العالمية إلى أدنى مستوى لها في ثلاثة أعوام، وإذ تعرضت الصادرات الأوكرانية من القمح تحديدا للاضطراب، فإن الأمن الغذائي سيكون مصدر قلق في عديد من مناطق الشرق الأوسط وإفريقيا، إذ تعتمد تلك الدول وأبرزها مصر على القمح الأوكراني والروسي، و40 في المائة من شحنات الذرة والقمح الأوكرانية توجه إلى الشرق الأوسط وإفريقيا.
وتغطي صادرات القمح من روسيا وأوكرانيا نحو 85 في المائة من طلب مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، وكانت مصر أكبر مستورد للقمح الأوكراني 2020، حيث استوردت نحو 14 في المائة من إجمالي إنتاج أوكرانيا، ما يجعلها في وضع حساس من توترات الأزمة الأوكرانية واحتمال ارتفاع أسعار القمح المستورد.
لكن الاحتياطي الاستراتيجي المصري من القمح، الذي يكفي لنحو ستة أشهر وقرب موسم الحصاد في مصر في شهر أبريل المقبل الذي يزود المحصول المحلي البلاد بنحو نصف احتياجاتها من القمح، يجعل من المستبعد أن تترك الأزمة بصمات ثقيلة على مصر على الأقل في الأجل القريب.

الأكثر قراءة