أخيرا .. العقلانية وجدت طريقها إلى البنوك المركزية
تطلب إتمام الأمر مزيجا مدمرا من الجائحة، والحرب في أوكرانيا، وتحول مواقف البنوك المركزية بشأن التضخم. منذ بدأ العام تغيرت قواعد اللعبة في الأسواق بشكل كبير. ولت أيام الاختصارات سيئة السمعة مثل فومو Fomo "الخوف من تفويت الفرص"، وتينا Tina "لا يوجد بديل للأسهم والائتمان عالي المخاطر" وبتد BTD "شراء الأصول عند انخفاض سعرها".
سرعان ما تبخر رد فعل سوق الأسهم المنتعش على ما كان يعد في البداية إشارات حمائمية في تحرك الاحتياطي الفيدرالي لرفع سعر الفائدة الأسبوع الماضي - كان مجرد ومضة سريعة فيما أصبح الآن سوقا هابطة. لكن على الأقل يبدو أن العقلانية آخذة في العودة إلى عملية صنع السياسة في البنوك المركزية.
بعدما عجزت طويلا عن تقديم أي مبررات مقنعة لاستمرار برامجها لشراء الأصول في أعقاب الأزمة المالية في 2007 ـ 2009، التزمت البنوك المركزية الآن برفع أسعار الفائدة وتقليص ميزانياتها العمومية. هذا يبعث الأمل في أن يصبح محتوى المعلومات الخاص بأسعار السوق ذا مغزى مرة أخرى، بعد أعوام من أسعار الأصول المتضخمة وسوء تسعير المخاطر.
كان أكبر مؤشر على عودة الظروف الطبيعية هو انخفاض عدد السندات ذات العائد السلبي عبر العالم إلى نحو 100 سند، مقارنة بـ4500 العام الماضي في مؤشر بلومبيرج العالمي للديون الإجمالية ذات العائد السلبي.
لذلك الممارسة الخطرة أخلاقيا، المتمثلة في الدفع للأشخاص للاقتراض، بدأت الآن التلاشي وأصبحت الحاجة للبحث عن العوائد دون الاهتمام بالمخاطر أقل حدة. تحقق سندات الخزانة الأمريكية المعيارية لأجل عشرة أعوام الآن عوائد تقترب من 3 في المائة، أي أكثر من ضعف عوائدها في أواخر تشرين الثاني (نوفمبر). ومنذ كانون الثاني (يناير) انخفضت أسعار الأسهم والسندات بطريقة مترادفة، ما جعل محفظة الأسهم والسندات التقليدية 60/40 لا توفر للمستثمر أي تنوع.
السؤال الكبير هو ما إذا كان هذا كله يمثل نهاية السياسة النقدية غير المتناسقة، حيث وضعت البنوك المركزية مرارا وتكرارا شبكة أمان تحت الأسواق المنهارة بينما امتنعت عن كبح الوفرة غير المنطقية. الإجابة هي نعم على المدى القصير، على الأقل في الولايات المتحدة. لأنه كما أشار بيل دادلي، الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، يريد الاحتياطي الفيدرالي سوقا أضعف للأسهم وعوائد سندات أعلى. هذا يؤدي إلى تشديد الأوضاع المالية، وبالتالي تقليل الحاجة إلى نشاط السياسة.
مع ذلك، قبل أن يتحمس المرء للغاية بشأن الاتجاه الجديد للسياسة النقدية التي توصف على نطاق واسع بأنها جريئة، من المهم ذكر أن سعر الفائدة الحقيقي للسياسة يظل سالبا. فقد بلغ التضخم الأساسي، وفقا لمؤشر أسعار نفقات الاستهلاك الشخصي المفضل لدى الاحتياطي الفيدرالي، 5.2 في المائة في آذار (مارس) مقارنة بالعام السابق، في حين رفعت اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة النطاق المستهدف لفائدة الأموال الفيدرالية الأسبوع الماضي إلى 0.75 ـ 1 في المائة فقط. لذلك، بينما يتم تشديد السياسة بالكاد يمكن اعتبارها مشددة.
ومخاطر حدوث خطأ في السياسة عالية لأن موقف السياسة النقدية المحايد الذي لا يسرع الاقتصاد ولا يبطئه "لم يكن أمرا يمكننا تحديده بأي دقة"، كما اعترف جاي باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأربعاء. يتمثل الخوف في أن البنوك المركزية قد تسرع الركود في وقت يكون فيه الدين العالمي عند مستويات قياسية في وقت السلم.
وفقا لمعهد التمويل الدولي، الممثل لهذا القطاع، ارتفعت ديون الشركات غير المالية على مستوى العالم من 81.9 تريليون دولار إلى مبلغ غير عادي قدره 86.6 تريليون دولار بين الربع الثالث من 2020 والربع نفسه من 2021. المبلغ الذي يعادل 97.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي يشير إلى حساسية أكبر من المعتاد للشركات تجاه زيادات أسعار الفائدة كما يشير إلى نقاط ضعف خطيرة.
قد يتطلب الأمر ركودا على أي حال لإعادة السيطرة على التضخم. الخميس، حذر بنك إنجلترا من أن الاقتصاد البريطاني يتجه نحو الركود هذا العام بينما يؤدي ارتفاع أسعار الطاقة إلى دفع التضخم فوق 10 في المائة. من الواضح أن أعضاء لجنة السياسة النقدية في البنك على استعداد لتكثيف الضغط على دخل الأسرة من أجل معالجة التضخم المتفاقم. وبالفعل صوتوا لرفع سعر الفائدة الرئيس ربع نقطة إلى 1 في المائة، وهو أعلى مستوى منذ أكثر من عقد.
في أعقاب الجائحة تزداد الصورة الاقتصادية العالمية قتامة الآن بسبب الصين. سياسة صفر كوفيد التي تنتهجها وعمليات الإغلاق تضر بالطلب، مثلما تفعل حالات الإعسار في قطاع العقارات الذي يمثل جزءا كبيرا بشكل غير متناسب من الاقتصاد الصيني. من بين جملة من الأمور، تعد هذه أخبارا سيئة بالنسبة إلى المصدرين في القارة الأوروبية الذين يتعايشون أيضا مع خسارة السوق الروسية. سيتعرض اقتصاد منطقة اليورو لضغوط شديدة لتجنب التضخم المصحوب بركود.
وبالنسبة إلى البنوك المركزية، هذا يستذكر مزحة قديمة عن سائق سيارة أجرة يخبر سائحا تائها يسأله عن الاتجاهات، لو كنت مكانك، لما بدأت من هنا. يظل الاحتياطي الفيدرالي واثقا من قدرته على تخطيط هبوط سلس. لكن ذلك يتطلب حظا مصحوبا بحكمة لم تكن موجودة بشكل كبير في الآونة الأخيرة. يظل هناك احتمال حقيقي لحدوث ركود يولد ذعرا في البنوك المركزية، وبالتالي العودة إلى السياسة النقدية غير المتناسقة وإلى مزيد من التسهيل الكمي.
في الحقيقة، يملك محافظو البنوك المركزية فرصة ضئيلة للنجاح. وهذا أقل من مطمئن للأشخاص الذين يتعرض دخلهم لتقلص حاد، حتى إن كان ذلك مبهجا في الظاهر للمستثمرين.