استهداف الذهب الروسي بالعقوبات .. بصمات سلبية تعرض النظام المصرفي الدولي لتحديات قوية
تتواصل الحرب الروسية في أوكرانيا وتتواصل العقوبات الأمريكية - الأوروبية على روسيا، وأحد الأهداف المعلنة لفرض العقوبات يتمثل في تضييق الخناق على قدرة موسكو على بيع احتياطياتها من الذهب، على أمل أن يضعف ذلك من قدرتها الاقتصادية، ويشل بالتالي مقدرتها على مواصلة تمويل الحرب، وفي هذا الإطار أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية في وقت سابق أن أي صفقة تنطوي على ذهب مرتبط بالبنك المركزي الروسي تخضع للعقوبات.
فيما أعلنت الحكومة البريطانية أن الكيانات البريطانية ممنوعة صراحة من الانخراط في معاملات الذهب مع البنك المركزي الروسي، وذلك بعد أن كانت إلى حد بعيد أكبر سوق استيراد للذهب من روسيا 2020، حيث بلغت قيمة المشتريات نحو 17 مليار دولار.
بصرف النظر عما إذا كانت العقوبات الأمريكية والأوروبية باستهداف الذهب الروسي ستفلح في تحقيق المبتغى منها أم لا، فإن المثير في الأمر أن عديدا من الخبراء الغربيين أعربوا عن تشككهم في فاعلية استهداف الذهب الروسي، لوجود عديد من الثغرات التي يمكن لموسكو من خلالها بيع ذهبها وجني الأموال، ومواصلة حربها لمنع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي يوما ما.
وتشير الأرقام الرسمية المتاحة إلى أن البنك المركزي الروسي يمتلك أكثر من ألفي طن متري من الذهب، تقدر قيمتها بنحو 140 مليار دولار، وبذلك تمتلك روسيا خامس أكبر مخزون من الذهب في العالم في خزائن بنكها المركزي، ويشكل الذهب خمس احتياطات النقد الأجنبي الروسي الذي يشمل في معظم إن لم يكن جميع البنوك المركزية في العالم توليفة من العملات الأجنبية أبرزها الدولار والين واليورو والاسترليني.
إلا أنه يلاحظ أن نسبة احتياطيات البنك المركزي الروسي من الذهب إلى إجمالي احتياطياته زادت من 8.9 في المائة في مارس 2014 عند ضم شبه جزيرة القرم إلى 21.7 في المائة بحلول يونيو 2022، ولم يعد الدولار يشكل الحصة الكبرى من تلك الاحتياطيات، حيث انخفض من نحو 40 في المائة إلى أكثر قليلا من 16 في المائة خلال الفترة نفسها.
لكن مكانة روسيا في عالم الذهب لا تنبع فقط من احتلالها المرتبة الخامسة عالميا فيما تمتلكه من احتياطي، لكنها تتبوأ مرتبة متقدمة للغاية في مجال الإنتاج أيضا، إذ إنه - وفقا لبيانات مجلس الذهب العالمي - فإنها تحتل المركز الثاني عالميا، وبينما تأتي الصين في المقدمة بإنتاج 332 طنا من الذهب، فإن روسيا لا تبتعد كثيرا عن هذا الرقم وتنتج 330.9 طن، يضاف إلى ذلك أن 80 في المائة من الذهب الأوروبي مصدره روسيا.
من جانبه، يرى كريس دين الخبير المالي، أن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا، ربما تعوق نسبيا بيع روسيا ذهبها، لكن نظرا إلى المكانة المميزة لروسيا في مجال إنتاج الذهب وضخامة ما لديها من احتياطيات، فإن موسكو لن تعجز عن إيجاد حلول.
ويستدرك قائلا "لكن لا شك أن العقوبات الأمريكية ستترك بصمات غير إيجابية على سوق الذهب العالمية".
وقال لـ"الاقتصادية"، "من الممكن أن تكون روسيا قد وجدت أو يمكنها أن تجد طرقا مختلفة لبيع احتياطياتها من الذهب إذا اضطرت إلى ذلك، ففنزويلا وجهت بعض ذهبها عبر تركيا وأوغندا لتجنب العقوبات الأمريكية في الماضي، ويمكن أن تجرب موسكو تكتيكات مماثلة ببيع ذهبها إلى الصين أو الهند أو كازاخستان، كما يمكن أن تستخدم الذهب كضمان للقروض".
في المقابل، يرى جاريت باتن الخبير الاستثماري، أن أي عقوبات مفروضة على الذهب الروسي ستكون لها آثار عكسية ومضرة على سوق الذهب الدولية.
وذكر لـ"الاقتصادية" أن "أسعار الذهب ارتفعت أخيرا، مقتربة من تسجيلها الرقم القياسي الذي حققته في صيف 2020، حيث أدت الحرب إلى زيادة الطلب على المعدن الأصفر، كما غذت العقوبات المخاوف من زيادة معدلات التضخم، واتجاه الاقتصاد العالمي إلى الركود التضخمي، ومن ثم ارتفع الطلب على المعدن النفيس باعتبار الاستثمار فيه واقتنائه وسيلة آمنة لمواجهة مخاطر المستقبل، ومن ثم فإن تقيد روسيا عبر العقوبات وهي لاعب أساسي في سوق الذهب العالمية، يوجد ضغوطا على الأسواق ويسهم في ارتفاع أسعار المعدن الأصفر".
مع ذلك يتوقع بعض الخبراء أن تظل أسعار المعدن الأصفر متقلبة، فعلى عكس السلع الصناعية مثل النفط والنحاس، لا يتأثر الذهب بالعرض والطلب على المدى القصير، وبدلا من ذلك يتم التداول على أساس طلب المستثمرين وتوقعاتهم للأداء الاقتصادي.
ويرى البعض أنه حتى إذا تم قطع إمدادات الذهب الروسي عن السوق العالمية، فقد لا تؤدي الاضطرابات إلى ارتفاع أسعار العقود الآجلة أكثر من اللازم.
مع هذا تظل المخاوف مشروعة من أن تترك البصمات الأمريكية والأوروبية على الذهب الروسي تأثيرا سلبيا في سوق الذهب الدولية، إذ يحذر الخبراء من أن تلجأ الكيانات الروسية الخاضعة للعقوبات إلى التجارة غير المشروعة في الذهب كوسيلة لنقل الأموال عبر الحدود الدولية، ما يعرض النظام المصرفي الدولي لتحديات قوية إذا فشل في تشديد الضوابط.
ونشرت منظمة المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة العابرة للحدود تقريرا يشير إلى أن العقوبات المفروضة على الاثرياء الروس والشركات الخاصة، جعلت قدرتهم على توليد الدخل ونقل الأموال والوصول إلى النقد الأجنبي مقيدة للغاية.
وجاء في التقرير "إنه من المتوقع وكردة فعل لمقاومة العقوبات المفروضة على روسيا أن تتحول هذه الكيانات إلى قوة الدفع في سوق تجارة الذهب غير المشروعة لاستغلال جميع الثغرات المتاحة للحفاظ على ثرواتها، خاصة أن الذهب يمكن فعليا نقله في جميع أنحاء العالم خارج الشبكات المالية الرقمية، ما يجعل تتبعه أمرا صعبا، كما أن الذهب يغسل بسهولة في الأسواق العالمية من خلال عدم التصريح بمصدره أو إخفاء أصوله".
مع هذا لم تؤثر تلك المخاوف حتى الآن على الأقل في الحركة في سوق الذهب العالمية.
بدوره، يرى توم ديفي الاستشاري السابق في بورصة لندن للمعادن، أن تلك المخاوف مشروعة، لكن يتشكك في أن تؤدي إلى نتائج سلبية أو توجد اضطرابات في سوق الذهب، ويبرر رؤيته بأن البنوك المركزية لا تزال تنظر إلى الذهب بصورة إيجابية كأصل احتياطي رئيس.
وقال لـ"الاقتصادية"، "إن مجلس الذهب العالمي أعلن أنه - وفقا لاستطلاع اجراه بشأن موقف 57 بنكا مركزيا عالميا من الذهب خلال الفترة من 23 فبراير إلى 29 أبريل الماضي - فإن 25 في المائة من تلك البنوك تنوي زيادة احتياطيات الذهب في الـ12 شهرا المقبلة بزيادة طفيفة عن 21 في المائة العام الماضي، وقد عادت البنوك المركزية مرة أخرى إلى مشتريات صافية من المعدن النفيس مع زيادة الاحتياطيات العالمية بمقدار 19.4 طن في أبريل الماضي".
ويعتقد توم ديفي أن البنوك المركزية في حاجة إلى الذهب، حيث يصبح العالم أكثر استقطابا، وتصبح أسواق العملات أكثر توترا والاستثمار فيها أكثر مجازفة، ولهذا فإن الاتجاه المستقبلي من وجهة نظره سيقوم على مزيد من تراكم الذهب في خزائن البنوك المركزية تحوطا للتقلبات الاقتصادية المقبلة.