«بريكس» .. حرب أوكرانيا تجزئ الاقتصاد العالمي

«بريكس» .. حرب أوكرانيا تجزئ الاقتصاد العالمي
«بريكس» .. حرب أوكرانيا تجزئ الاقتصاد العالمي

من تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية انحصار العولمة في ركن من العالم "القارة الآسيوية تحديدا"، بسبب سلاح العقوبات الاقتصادية الغربية الموجه ضد موسكو منذ بدء الحرب، لصالح انتعاش التكتلات الاقتصادية الدولية والإقليمية، ولا سيما تلك التي تضم دولا تفضل الحفاظ على مسافة أمان من النظام الاقتصادي الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة.
تجمع دول "بريكس" (BRICS)، والاسم اختصار للأحرف الأولى من أسماء دول: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، واحد من التكتلات التي استرعت انتباه المراقبين والخبراء، بعد احتدام التوتر بين روسيا والمعسكر الغربي جراء الحرب، لأكثر من سبب، فهو يضم عضوية دولتين (الصين وروسيا) تناكفان واشنطن قيادة العالم، أو على الأقل تطمحان إلى الدفع بها نحو تقاسم السلطة مع مراكز أخرى في العالم. كما أن فكرة المشروع تحظى براهنية مطلقة في السياق الدولي الحالي، ففي الإعلان التأسيسي للمجموعة، في حزيران (يونيو) 2009، نجد السعي نحو "نظام عالمي ثنائي القطبية"، يتيح تمثيلية أكبر للاقتصادات الناشئة، ويقف ضد "الهيمنة غير المتكافئة للقوى الغربية على العالم". فضلا عن الموقف "المحايد" لقادة الدول الأعضاء في التكتل من الحرب، فلم يدن أي منهم علانية هجوم موسكو على كييف.
تعود بوادر هذا التكتل إلى 2006، بمبادرة من وزراء خارجية الدول المؤسسة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن التأسيس الفعلي للتكتل لم يقع إلا بعد الأزمة الاقتصادية 2008، حيث قادت بكين بمعية دول أخرى حركة دولية، قوامها خطة عملية، تطمح إلى تغيير قواعد اللعبة على الصعيد الدولي. وذلك بالعمل على إنشاء نظام اقتصادي عالمي، خارج سيطرة المعسكر الغربي. بعدما أيقنت من تبرم دول صاعدة من قواعد هذا النظام غير العادلة، ليولد التكتل الرباعي – جنوب إفريقيا لم تنضم حتى 2011– فعليا في قمة روسيا أواسط 2009.
مثلت القمة الأخيرة لتجمع "بريكس"، أواخر الشهر الماضي، في العاصمة الصينية بكين، رسالة مباشرة إلى واشنطن وحلفائها، مفادها القدرة على التحرك بأريحية واللعب بحرية أكبر، بعيدا عن قواعد المعسكر الغربي. كما أنها رد مبكر على قمة مجموعة السبع الصناعية (كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) التي احتضنتها ألمانيا. وكذا قمة حلف الناتو في العاصمة الإسبانية مدريد التي تضمن جدول أعمالها "وحشية الهجوم الروسي" و "تنامي الطموح الصيني".
كما شكل الاجتماع الـ14 الذي كان عن بعد، فرصة مثالية لقادة الدول، للتأكيد على مشروعية فكرة التكتل وطموح الدول الأعضاء، بالنظر إلى الوزن المتزايد لهذه المنظمة على الصعيد العالمي. فهذه الدول تتربع على مساحة 39,7 مليون كيلومتر مربع، ما يعادل 30 في المائة من اليابسة العالمية. ويقترب عدد سكانها من ثلاثة مليارات نسمة، ما يمثل 42 في المائة من إجمالي سكان الأرض.
اقتصاديا، تحتل دول المنظمة مراكز متقدمة جدا، حيث تأتي الصين في المرتبة الثانية عالميا، متبوعة بالهند في المرتبة الرابعة، وتأتي روسيا في السادسة، ثم البرازيل تاسعة، وأخيرا جنوب إفريقيا في المرتبة 25 عالميا. وبلغة الأرقام، فقز الناتج المحلي الإجمالي لأعضاء "بريكس" من 16,4 تريليون دولار 2016، أي ما يعادل 22.3 في المائة من الحجم العالمي، إلى 24،2 تريليون دولار، ما يمثل أزيد من 25 في المائة من الناتج الإجمالي العالمي 2021. وبلغت حصيلة الصادرات السلعية بين دول المجموعة العام الماضي 4,6 تريليون دولار، وهذا يمثل نحو 20 في المائة من إجمالي الصادرات السلعية للعالم، فيما واردات المجموعة استقرت عند 17 في المائة من إجمالي الواردات السلعية للعالم، برقم 3,9 تريليون دولار عن العام ذاته.
عسكريا، وبمعية الموارد البشرية الهامة، يقترب حجم الإنفاق العسكري لدول التكتل من 11 في المائة من حجم الإنفاق العسكري، ما يثير هواجس في أوساط المعسكر الغربي. ويزيد توالي المؤشرات عن رغبة قوية في تجاوز هذه النسبة، برفع حجم الإنفاق على الصناعات العسكرية، وتطوير القدرات الدفاعية وتمويل البحوث والابتكارات في هذا المجال، من مخاوف صناع القرار في واشنطن. خوف تعززه الترسانة النووية التي تبقى نقطة قوة المجموعة، بامتلاك ثلاث دول مجتمعة (الصين والهند وروسيا) 3060 رأسا نوويا، نحو 52 في المائة من الحجم العالمي.
بدا زعماء "بريكس" عازمين على تعزيز نفوذ المجموعة على الصعيد الدولي، بشكل لا رجعة فيه، بدءا من عنوان القمة "حقبة جديدة للتنمية العالمية"، وكذا في تفاصيل النقاش بتأكيدهم على التنسيق في المواد الأولية، مع تفضيل التبادل بالعملات الوطنية بدل الدولار الأمريكي. وكان الاجتماع فرصة لترجمة أقوال وتعهدات قمم سابقة إلى إجراءات وأفعال، فكان اللقاء مناسبة لتفعيل خطة "بريكس بلس" التوسعية التي اعتمدت 2017، باستدعاء دول جديدة للمجموعة كمشاركين أو ضيوف في أفق التحاقهم كأعضاء في المستقبل.
جرى الحديث في القمة عن انضمام دولتين إلى هذا التكتل، وهما: الأرجنتين وإيران، حيث شارك رئيسا البلدين في أعمال اللقاء. علاوة على مشاركة الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون. يبدو التحاق إيران مفهوما إلى حد كبير، بحكم ارتباط اقتصادها بالصين وروسيا والهند من جهة. وسعيها من جهة أخرى إلى الهروب من العقوبات الاقتصادية الغربية التي أرهقت طهران. ومن جهة ثالثة، بحكم الاتفاقات الاستراتيجية الموقعة مع كل من بكين وموسكو العام الماضي.
لكن انضمام الأرجنتين يبقى مفاجأة كبيرة، لارتباطها الاقتصادي بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية. بيد أنها على ما يبدو فضلت اتباع سياسة جارتها البرازيل بالحرص على تنويع اقتصادها، فاختارت عضوية هذه المنظمة لثقتها في مستقبل وآفاق هذا التجمع الفتي من ناحية. ورغبة بيونس أيرس من ناحية أخرى التخلص من هيمنة المؤسسات الاقتصادية الغربية على اقتصاد البلد، فلا تكاد تخرج من أزمة حتى تسقط في أخرى بسبب القروض، ما أوصلها إلى إعلان الإفلاس أكثر من مرة، وكان آخرها 2001، بعد عجزها عن تسديد ديون بلغت 81 مليار دولار.
يعد خبراء السياسة في العواصم الغربية توجهات "بريكس" بمنزلة هجوم دبلوماسي مضاد من بكين وموسكو في وجه واشنطن وحلفائها، ورفضا صريحا لإملاءات واشنطن برفض التقيد بالعقوبات الغربية على "أعداء" المعسكر الغربي. لكن الأمر يبقى في نظر البعض عند حدود المقبول أو المسموح به، ما لم يتحول إلى كيان متكامل، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، من شأن ولادته أن تزيح كيانات كبرى من صدارة المشهد العالمي.

الأكثر قراءة