الابتكار والثقافة ودور التعليم

احتل التعليم عبر الزمن مكانة كبرى في حياة الإنسان وحضارات الأمم، فهو ينقل المعرفة بين الأجيال، ويعزز تجددها، ويفعل الاستفادة منها. وهو يسهم بذلك ليس فقط في استدامة معطيات الحياة، بل في تطويرها المستمر نحو الأفضل أيضا. وقد شهد العالم قبيل الألفية الثالثة وفي مطلعها، وفي الأعوام اللاحقة بعد ذلك، اهتماما بالتخطيط لتطوير التعليم، وإعداد الإنسان القادر على التفاعل مع البيئة المعرفية للقرن الـ21. فالواضح في هذه البيئة هو أنها تشهد تزايدا كبيرا في التنافس المعرفي، حيث يحتاج هذا التنافس إلى تعليم متطور يؤهل الأجيال المتجددة لدور فاعل في المستقبل.
وهناك أمثلة عديدة حول التخطيط المستقبلي للتعليم في القرن الـ21. فقبيل بداية القرن، أصدرت "اليونسكو UNESCO" ما أسمته بالإعلان العالمي للتعليم العالي في القرن الـ21، شمل طموحات مختلفة للمستقبل. وفي 2005، أصدر "اتحاد الكليات والجامعات الأمريكية AAC&U" وثيقة حول مستقبل التعليم العالي، حملت عنوانا يقول "التعليم المنفتح والوعد الأمريكي LEAP". ولم يقتصر الاهتمام على التعليم العالي فقط، بل كان هناك اهتمام بالتعليم العام أيضا. ومن أمثلة ذلك الوثيقة البريطانية الصادرة في 1999 التي تحمل عنوانا يقول "الإبداع والثقافة والتعليم". ومن الأمثلة أيضا مشروع "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD"، التي تضم 36 دولة، والصادر في 2015، حاملا عنوانا يقول "مستقبل التعليم والمهارات لعام 2030".
سنتوقف، في هذا المقال، عند الوثيقة البريطانية الخاصة "بالإبداع والثقافة والتعليم". تهتم هذه الوثيقة بتحفيز الإبداع الكامن في الإنسان وتعزيزه، وبناء الثقافة فيه وتفعيلها، وذلك من خلال نظام تعليم متطور، من أجل تأهيل أفضل للناشئة، يؤدي إلى الارتقاء بتأثير الأجيال المقبلة في حياة الأمة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
تم إعداد الوثيقة البريطانية من قبل "اللجنة الوطنية الاستشارية للإبداع والثقافة والتعليم NACCCE"، بدعم من كل من وزارة الدولة لشؤون التعليم والتوظيف، ووزارة الدولة لشؤون الثقافة، ووسائل الإعلام، والرياضة. وقد حظيت اللجنة بخبير يدعى كين روبنسون Ken Robinson كرئيس لها، حيث كان لأفكاره أثر كبير في الوثيقة. وقد منح الرجل لقب الفروسية، "سيرSir"، في 2003 تقديرا لعمله، ورحل منذ عامين عن هذا العالم.
حملت الوثيقة فكرة رئيسة كان روبنسون يؤكدها، إلى أن أفاض الشرح بشأنها في كتابه "العنصر The Element"، الصادر في 2009. وملخص هذه الفكرة هي أن كل إنسان يحمل طابعا خاصا، أو عنصرا ذاتيا في مجال معين، يجعله متميزا، بل متفوقا على الآخرين في هذا المجال. وعلى التعليم أن يهتم بهذا الأمر، بحيث يساعد على اكتشاف هذا العنصر في كل طالب، ويسعى إلى إيجاد الوسائل التي تساعد على رعايته وتنميته.
والنتيجة على أساس ما سبق هي أنه إذا أتيح لكل طالب تنمية عنصره الذاتي، الذي يتميز فيه، فسيكون أكثر قدرة على الإبداع والابتكار في مجاله، بل أكثر تحفزا وإقداما على ذلك. ولا يكون مثل هذا التميز بالضرورة في إطار المقررات الدراسية التقليدية، بل ربما يكون في القدرات الإنسانية المختلفة الأخرى، كالقدرة على قيادة الآخرين، أو ربما القدرة الحركية الرياضية، أو قدرات الفن التشكيلي، أو غير ذلك. ولا شك أن الإبداع، والابتكار الذي يحمل قيمة يتمتع بأبعاد تشمل مختلف نواحي الحياة دون استثناء.
ترى الوثيقة أن التعليم كان يركز تقليديا على نواحي القراءة والكتابة والتأهيل اللغوي Literacy، وعلى نواحي التأهيل الحسابي Numeracy أيضا. والمنطلق هنا هو أن ذلك يفتح المجال أمام الاستزادة من المعرفة في مختلف المجالات الأخرى. وتبين الوثيقة أن ذلك لم يعد كافيا، وأن المستقبل يحتاج إلى تعليم تحفيزي منفتح على شؤون الحياة، يكتشف قدرات التميز لمختلف الطلاب ويسعى إلى الارتقاء بها، فضلا عن تأهيلهم للتفاعل مع متطلبات الحياة المتطورة. وتهتم الوثيقة، من أجل ذلك، بما يقوله عنوانها، أي بجانبي الإبداع والثقافة.
يحتاج التعليم، طبقا للوثيقة، إلى تحقيق توازن بين تأهيل الطالب بالمعرفة والمهارات اللازمة من جهة، وبين إتاحة فرص الإبداع والابتكار للجميع، بل تحفيز ذلك، من جهة أخرى. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأمرين ليسا منفصلين، بل هما متكاملان. فتدريس المعرفة والمهارات، يمكن أن يكون منفتحا، لا يقتصر على التلقين، بل يفسح المجال أمام المبدعين والمبتكرين، في هذا المجال أو ذاك، للمشاركة وتقديم ما لديهم، مع الحرص على استيعاب ما يمكن أن ينتج عن ذلك من إخفاقات، إلى جانب دعم ما يبرز من نجاحات. ويتطلب ذلك تحفيزا ليس فقط للطالب في تقديم معطياته، بل للمدرس أيضا في اجتهاده وإبراز إمكاناته.
تؤكد الوثيقة، في مسألة الثقافة، حقيقة أن الثقافة المنشودة ليست فنونا فقط، بل هي أكثر من ذلك. إنها التعامل مع متطلبات الحياة، خصوصا مع تنامي دور التقنية في حياة الإنسان، وانتشار العولمة على نطاق واسع، خاصة في القضايا المعرفية والتجارية، ويضاف إلى ذلك التأكيد على أن التعامل مع الآخر يجب أن ينطلق من مبدأ التعارف، بعيدا عن العداء. وعلى هذا الأساس يحتاج التعليم إلى الاهتمام بدور ثقافي له، يؤهل الإنسان للتفاعل مع متطلبات الحياة، والتعامل مع أصحاب الثقافات الأخرى، بما يحقق مصالح الجميع في إطار من الحقوق والواجبات المتوازنة.
لن يستطيع مقال واحد الإحاطة بمضامين الوثيقة المطروحة والتعليق عليها، لأنها واسعة وتفصيلية. لكن ما تم طرحه يمثل ما يمكن أن يعبر عنه "بلؤلؤتي الوثيقة" اللتين تمثلان هديتها للتعليم. تتمثل اللؤلؤة الأولى بفكرة تميز كل إنسان بعنصر ذاتي خاص، يطلب تنميته وتحفيزه، لأنه منبع مرشح للإبداع والابتكار. وتتجلى اللؤلؤة الثانية بالتأهيل الثقافي والاهتمام بحسن التفاعل مع شؤون الحياة والتعامل مع الآخرين. واللؤلؤتان متكاملتان، ففي الثقافة رؤية واسعة تعزز فهم متطلبات الحياة، وفي الإبداع والابتكار استجابة استباقية لهذه المتطلبات. والأمل أن يكون هذا المقال قد ألقى بعض الضوء على توجهات مهمة ومفيدة في شؤون التعليم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي