الاقتصاد الرقمي وتفعيل أدواته

تتضمن كلمة "اقتصاد"، معاني تهم كل إنسان، فهي تعبر عن علم نافع، يحتاج إلى إدارة فاعلة، تستطيع النهوض بالمجتمعات. وعلى ذلك، لا بد من إدراك المقصود بـ "الاقتصاد" عموما، ولا بد أيضا من استيعاب تجدد معنى الاقتصاد، عندما تطلق عليه صفات توجه معناه، أو تضيف إلى هذا المعنى معطيات جديدة. فهناك اقتصاد يوصف بأنه جديد، وآخر يوصف بالرقمي، ثم هناك اقتصاد يوصف بالسلوكي، إضافة إلى اقتصادات القطاعات المختلفة، كالاقتصاد الزراعي، والاقتصاد الصناعي، وغير ذلك. وغاية هذا المقال هي إلقاء الضوء على المقصود بالاقتصاد عموما، ثم التركيز على الاقتصاد، عندما يحمل صفة "الرقمي" التي تمنحه أداء متميزا غير مسبوق، مقابل متطلبات تقنية، وتوجهات إدارية، وعادات جديدة في العمل والإنجاز.
ولكي نحدد المقصود بـ "الاقتصاد"، لعلنا نطرح تعريفين مهمين له. يقول الأول، الصادر عن "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD" التي تضم "38 دولة"، التي تعرف أيضا بنادي الدول الغنية، ما يلي، "يتضمن الاقتصاد الحصول على مصادر رئيسة، تشمل المال، والقدرات البشرية، والأجهزة، وغيرها، من أجل تنفيذ نشاطات مفيدة بأقل التكاليف". أما التعريف الثاني، المأخوذ عن "الموسوعة البريطانية Britannica"، فيقول، "إن الاقتصاد إجراء أو نظام يقدم منتجات وخدمات، تباع وتشترى في إطار دولة أو على مستوى العالم".
على أساس هذين التعريفين، يمكن النظر إلى الاقتصاد على أنه يشمل "أدوات"، ويتضمن "نشاطات"، ويحقق "غايات". الأدوات هي المال، والقدرات البشرية، والأجهزة التقنية، والمؤسسات، وإرادة العمل. أما النشاطات فتتضمن إنتاج السلع وتقديم الخدمات، إضافة إلى نشاطات السوق والبيع والشراء. ونأتي إلى الغايات التي تشمل تنفيذ النشاطات بأداء مرتفع، وبأقل التكاليف، والعمل على الربح وتوليد الثروة وتحقيق التنمية الاقتصادية، فضلا عن السعي، في أحيان كثيرة، إلى تشغيل اليد العاملة والشراكة في تحقيق التنمية واستفادة جميع العاملين منها. وليست الغايات دائما ربحية، فقد تكون غير ربحية، ساعية إلى التنمية بجوانبها المختلفة الأخرى المعرفية، والثقافية، والاجتماعية، والصحية، كما هو الحال في الخدمات الحكومية. وتنطبق أدوات الاقتصاد، ونشاطاته، وغاياته المنشودة على مختلف شؤون الحياة وقطاعاتها المختلفة، سواء الخدمية منها أو الإنتاجية.
عندما يوصف الاقتصاد "بالجديد"، نجد أن "لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD" تعريفا خاصا بهذا الاقتصاد. يقول هذا التعريف، "إن الاقتصاد الجديد يهتم بنشاطات الصناعات التي تقدم منتجات تقنية حديثة وتقوم بتسويقها، حيث يعتمد تنفيذ نشاطات الإنتاج والتسويق هذه على التقنية الرقمية". ويبرز في معاني هذا الاقتصاد الجديد "الاقتصاد الرقمي" الذي يلقى اهتماما واسعا في دول العالم المختلفة، وهناك تعريف عام مفيد لمفهوم هذا الاقتصاد طرحه موقع الحكومة الأسترالية، العضو في "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية".
يقول هذا التعريف، "إن الاقتصاد الرقمي هو اقتصاد النشاطات الاقتصادية والاجتماعية التي يتم تنفيذها عبر الشبكة الرقمية العالمية باستخدام أدوات تقنيات المعلومات والاتصالات بشكليها السلكي واللاسلكي". ويشير هذا التعريف إلى أن وصف "الرقمي" للاقتصاد يعني اعتماده على الأدوات الرقمية، واستغلاله إمكاناتها، في تفعيل النشاطات الاقتصادية، وجعلها أكثر استجابة للمتطلبات، وأفضل أداء للنشاطات، سواء ماديا في مسألة توفير النفقات، أو معنويا في جعل الحياة أكثر رفاهية.
وفي إطار خبرتها بالاقتصاد الرقمي، يقول موقع الحكومة الأسترالية، سابق الذكر، التالي، "كان الاقتصاد الرقمي محركا رئيسا للتنمية، على مدى الأعوام السابقة". وفي هذا الإطار يذكر الموقع التوجهات نحو بناء نماذج عمل جديدة تعتمد على الإنترنت، وتستفيد من معطياتها. ويشجع "الدليل الدولي للابتكار GII"، في مؤشراته، على ابتكار مثل هذه النماذج، لأن في ذلك كفاءة أعلى في أداء النشاطات الاقتصادية، وبالتالي في تعزيز المعطيات الاقتصادية. ويحتاج هذا الأمر إلى تشريعات تدعم تنفيذ النشاطات الاقتصادية ذات الطبيعة المعلوماتية إلكترونيا، وتجيز وجود مؤسسات سيبرانية تعتمد على الأدوات الرقمية في نشاطاتها الاقتصادية.
ولعل من المفيد هنا ذكر أن "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD" تشجع الدول الأعضاء فيها على إطلاق مشاريع خاصة بالاقتصاد الرقمي تهتم بتحويل تنفيذ النشاطات الاقتصادية إلى العالم السيبراني. فهي ترى في هذه المشاريع فهما أعمق للتحول الرقمي يؤدي إلى تعميقه وتنفيذه على نطاق أوسع، والاستفادة من معطياته. ولا شك أن فيروس كورونا الخبيث، شجع مثل هذه المشاريع أيضا، وذلك تحت تهديد مخاطره. وهناك مؤسسات كثيرة، خصوصا في القطاع الخاص، لجأت إلى التحول الرقمي، ثم استمرت فيه، لكن هناك أيضا من تراجع عن التحول الرقمي، تحت ضغط التعود، على مدى عقود سابقة، على الأساليب التقليدية في تنفيذ النشاطات الاقتصادية.
وهكذا نجد أن الاقتصاد الذي يتحلى بصفة الرقمي، يلقى اهتماما واسعا لأنه يجعل النشاطات أجدى كفاءة، وأكثر فاعلية، كما أنه يتمتع برشاقة الاستجابة السريعة. وهو، في إطار "أدوات الاقتصاد ونشاطاته، وغاياته"، يحقق الغايات عبر نشاطات أفضل أداء، وتحتاج هذه النشاطات إلى أدوات إضافية تتمثل ببنية رقمية داعمة ومتطورة. ولا شك أن المملكة تتمتع بمثل هذه البنية، بل تتمتع أيضا باستخدام واسع لها، سواء في إطار التعاملات الإلكترونية الحكومية، أو أعمال التجارة الإلكترونية. لكن هذا الاستخدام يمكن أن يتوسع، عبر نماذج عمل متجددة، ليشمل جميع النشاطات الاقتصادية الربحية وغير الربحية، بما يؤدي إلى تفعيل التنمية في كل المجالات.
يحتاج بناء الاقتصاد الرقمي ليس فقط إلى أدواته المتمثلة في "البنية الرقمية"، وليس فقط إلى قدرة هذه الأدوات على تنفيذ نشاطات كثيرة بأداء أفضل، بل إلى إرادة الإنسان، خصوصا القائمين على إدارة القطاعات المختلفة، في التوجه نحو تغيير ما اعتادوا عليه إلى ما هو أحدث وأفضل. ويحتاج هذا الأمر إلى تشريعات تدعم تنفيذ النشاطات الاقتصادية ذات الطبيعة المعلوماتية إلكترونيا، وتجيز وجود مؤسسات سيبرانية تعتمد على الاقتصاد الرقمي. ولا شك أن في القدرات التي تمنحها "التقنية الرقمية" للإنسان تحفيزا له على بناء نماذج أعمال جديدة، ترتبط بتفعيل "الاقتصاد الرقمي"، في مختلف المجالات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي