الإنسان والشراكة .. والابتكار والتنمية
يجمع هذا العنوان أربع كلمات مختلفة، كل منها كلمة مضيئة بذاتها، لكنها مضيئة أكثر في تكاملها مع الكلمات الأخرى. الكلمة الجوهرية بين هذه الكلمات هي الإنسان، وتأتي قيمة الإنسان من تميزه بين مخلوقات الله، وقدرته على التعامل مع الطبيعة التي أحاطه الله بها، والاستفادة من مصادرها، والإبداع والابتكار بشأنها. واستطاع الإنسان، في رحلته مع الحياة، اكتساب معارف كثيرة، عبر شراكات مع أخيه الإنسان في الأفكار والمبتكرات وأعمال التطوير والتنمية، ليس فقط على مستوى جيل واحد، ولا في إطار حضارة واحدة، بل على مستوى الأجيال المتعاقبة، والحضارات المختلفة، التي مرت على الإنسان عبر الزمن.
غاية هذا المقال هي طرح مسألة الشراكة في حياة الإنسان ودورها في الابتكار والتنمية. ولعل نقطة انطلاق هذه الشراكة تأتي من طبيعة الإنسان نفسه، ومتطلباته في الحياة. فإذا نظرنا إلى هذه المتطلبات من خلال تعريف أبراهام ماسلو Abraham Maslow، نجد أن لها خمسة مستويات، وأن جميع هذه المستويات ترتبط بالشراكة مع الآخرين. ويشمل ذلك المتطلبات الأساسية للمستوى الأول، ومتطلبات الأمان للمستوى الثاني، ثم متطلبات الانتماء والمحبة للمستوى الثالث، ومتطلبات المكانة والاحترام للمستوى الرابع، إضافة إلى متطلبات التميز وتحقيق الذات للمستوى الخامس.
ولعل من المناسب في موضوع ارتباط حياة الإنسان بالشراكة ذكر فكرة "اليد الخفية Invisible Hand" التي طرحها آدم سميث Adam Smith الملقب بأبي الاقتصاد. فهذه الفكرة تقول إن الإنسان لا يستطيع تأمين كل احتياجاته المتعددة بنفسه، لكنه يستطيع ذلك عبر الشراكة. فهو يختص بالعمل في مجال معين يناسبه، كالزراعة، أو الصناعة، أو البيع والشراء، أو غير ذلك، ليؤمن في مجاله احتياجاته واحتياجات الآخرين في مجتمعه، ويحصل منهم مقابل ذلك على احتياجاته الأخرى في المجالات الأخرى. وترى الفكرة أن هذا الأمر يحدث بشكل طبيعي في المجتمعات الإنسانية، دون تخطيط مسبق، خصوصا مع اختلاف توجهات البشر وإمكاناتهم في المجالات المختلفة. ولأن ذلك يحدث بشكل تلقائي، فقد سميت فكرة الشراكة التلقائية هذه باليد الخفية.
هناك أقوال مأثورة لبعض مشاهير رجال الأعمال حول الشراكة الناجحة، نختار منهم قولين مهمين. يذكر أحدهما أن "الشراكة الناجحة تعطي آفاقا أوسع لكل شريك فيها"؛ وينبه القول الثاني إلى أن "الشراكة الناجحة تحتاج إلى شركاء أقوياء". تأتي الحقيقة في القول الأول من أن الشراكة تتيح لكل شريك أن يتعلم من الشركاء الآخرين، ليكتسب من خلال ذلك آفاقا جديدة للعمل ولتكامل الأعمال المختلفة. وتبرز الحقيقة في القول الثاني من أن أي شراكة لن تنجح ما لم يكن هناك دور فاعل لكل شريك، فدور الشريك يمثل قوته في الشراكة، فإن لم يكن هذا الدور قائما بالقدر المطلوب، فلن تكون شراكته قابلة للاستمرار.
وهناك في مجال الابتكار أقوال لمشاهير من رواد الأعمال الذين يمثل الابتكار بالنسبة إليهم المحرك الرئيس للأعمال الجديدة والمتجددة التي يقومون بها. في هذا الإطار يبين أحد الأقوال التالي "تشمل ريادة الأعمال التركيز، والتمييز، والتنظيم، والابتكار، والتواصل". فالتركيز يحدد توجهات العمل المنشود، والتمييز يعزز فهم الجوانب المختلفة لهذا العمل، والتنظيم يرسم هيكلية العمل ويحدد إجراءاته، والابتكار يقدم الأفكار الجديدة والمتجددة التي تجعل مخرجات العمل تحمل قيمة للمستفيدين المستهدفين، ثم يأتي التواصل ليدعو إلى الشراكة مع آخرين عند الحاجة من جهة، وإلى التسويق وحسن عرض المخرجات، والتعامل الذي يرضي الزبائن من جهة أخرى.
وتأتي في إطار ما سبق، أقوال لأحد أبرز رواد الأعمال في النصف الثاني من القرن الـ20 ومطلع القرن الـ21، ألا وهو ستيف جوبز Steve Jobs مؤسس شركة أبل Apple الشهيرة، والمنحدر من أصول عربية. فهو يقول في الابتكار وتقديم منتجات جديدة للسوق التالي، "ليس من واجب الزبائن تحديد متطلباتهم". والمقصود هنا هو أن على رواد الأعمال وشركائهم، والعاملين معهم من المبتكرين، أن يكونوا سباقين إلى تقديم منتجات يحتاج إليها الزبائن في السوق، قبل أن يشعر هؤلاء بهذه الحاجة. والمعنى المتميز هنا هو قلب مقولة "الحاجة أم الاختراع" إلى "اختراع يستبق الحاجة".
ولستيف جوبز قول آخر في مجال دور الشراكة في تقديم إنجازات متميزة. فهو يقول، "الإنجازات الكبرى في ريادة الأعمال لا تأتي من شخص واحد، بل هي تأتي عبر فريق عمل". فمثل هذه الإنجازات، خصوصا في العصر الذي نعيش فيه، في الأغلب تكون معقدة لا يمكن لفرد أن يقوم بها. فبرمجيات نظم الحواسيب سواء الخاصة بـ"مايكروسوفت"، أو "أبل"، أو غيرهما، منتجات معقدة يشارك فيها خبراء كثيرون، حيث لا يمكن لفرد واحد أن يقوم بها. وهنا يجب التمييز بين قيادة العمل من جهة، وتنفيذ العمل ووضع المبتكرات فيه من جهة أخرى. يحتاج العمل بالطبع إلى قيادة وإلى تكامل، وهو يتطلب أيضا شراكة، في إطار القيادة المتكامل.
بعد ما سبق لعل من المناسب تقديم مثال حيوي حول الشراكة والابتكار والتنمية. والمثال المختار هنا هو الشراكة بين الجامعات التي تنشر المعرفة وتهتم بالإبداع والابتكار في مجالاتها المختلفة من جهة، وقطاعات توظيف المعرفة، وتقديم منجزات متجددة ومتميزة تستند إلى هذا التوظيف من جهة أخرى. فمثل هذه الشراكة مؤهلة للنجاح لأن لكل طرف فيها دورا أساسيا مهما، ولأنها تعطي لكل طرف آفاقا جديدة للعمل. فالمعرفة ومعطياتها في الجامعات تصبح في خدمة المجتمع سواء استباقيا أو استجابة للحاجة، وتوظيف المعرفة في القطاعات المختلفة يصبح أكثر قدرة على المنافسة والتميز في بيئة التسابق المعرفي العالمي الذي يشهده هذا العصر. وهذا ما يفعل التنمية ويدعم استدامتها.
وهكذا يكون هذا المقال قد بين الاهتمام الفطري للإنسان بالتوجه نحو الشراكة، وريادة الأعمال، وتقديم المبتكرات والمنجزات المتجددة، وتفعيل القدرة على المنافسة، وتحقيق التنمية. ويمكن تحقيق مثل ذلك على مستويات متعددة، بدءا بالمستوى المحلي المحدود، وانتهاء بالمستوى الدولي الجامع. ولنا عودة إلى هذا الشأن في مقالات مقبلة بمشيئة الله.