«ابحث عني بين الضباب» .. تأبين فني لحرائق غابات عسير
ألهمت حرائق الغابات المدمرة عشرة فنانين، تخيلوا في فنونهم مدينة مستقبلية مستخرجة من المواد القديمة والتاريخ، وانطلقوا من الحريق الذي طال المتنزهات الوطنية الجبلية في أبها، فكان ثيمة لمعرض فني، حمل اسم "ابحث عني بين الضباب".
بتنظيم من هيئة الفنون البصرية، يقدم الفنانون أعمالا تحمل أشكالا تأملية وشعرية مستلهمة من بيئة منطقة عسير والضباب الذي صاحب حرائق الغابات الهائلة خلال العام الماضي، مسلطا الضوء على أهمية الاستدامة البيئية، في معرض معاصر يستضيفه حي جاكس في الدرعية التاريخية، ويواصل استقبال زواره حتى 24 سبتمبر الجاري.
مزيج الارتجال والفن
بحسب المعرض ومعلوماته، فإن "ابحث عني بين الضباب" يميل إلى الارتجال والعمل الجماعي كاستراتيجية، والاستكشاف عبر البحث في تاريخ البشر وارتباطه بالنار.
وبحسب كتالوج المعرض - رفيق الزائر في زيارته - فإن عنوان "ابحث عني بين الضباب" يعتمد على كتابات جون مورا، باحث الأنثروبولوجيا الأمريكي الذي قدم نموذجا لفهم الحضارات الزراعية القديمة المزدهرة التي تعيش في التضاريس البعيدة والمرتفعة، فكانت إحدى السمات المعمارية البارزة المشتركة بين هذه العوالم هي الزراعة المتدرجة، وهي تقنية توسطت في التغيرات الجغرافية داخل المساحات العمودية "المناطق الجبلية"، التي أنتجت الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية التي أكسبت سكان المنطقة لقب "سادة السحاب".
في مارس الماضي، كان الافتتاح الأول لمعرض "ابحث عني بين الضباب"، في قرية المفتاحة في أبها، في مكان ليس ببعيد عن حرائق عسير، وفي نسخته الثانية على مدى ثلاثة أسابيع يسعى الفنانون للوصول إلى شرائح ومجتمعات أخرى، إذ يقام بتنسيق مريم بلال القيمة الفنية، وبمشاركة عشرة فنانين من المناطق المحيطة بأبها: عبدالله العمودي، عبدالله حماس، آلاء طرابزوني، فهد بن نايف، أيمن زيداني، عزيز جمال، حاتم الأحمد، محمد الفرج، ريم الناصر، وسعيد جبعان.
العودة للأرض
يقدم الرسام والمعلم السعودي عبدالله حماس لوحة مرسومة بالإكريلك على القماش، تعكس بألوانها الزاهية منظرا جويا لمسقط رأسه أبها، في مزيج من مشاهد الزراعة المتدرجة والتضاريس الجوية، والنباتات في حالات زمنية وجيومورفية مختلفة، فيما ينسج أيمن زيداني مجموعة من المواد الرقمية لإنشاء نسيج مرئي من عناصر مختلفة، إذ يشكل عمله "العودة للأرض" خريطة رقمية تسلط الضوء على عودة الحياة إلى الغابات المحترقة أخيرا في عسير، من بينها شجرة عمرها 1400 عام في وسط قرية نجت من الحريق.
العمل الفني لزيداني يعمل على تحسين فهمنا للماضي وتحدي قبولنا للمستقبل، انطلاقا من خبرته الفنية، حيث حاز جائزة إثراء للفنون الافتتاحية، ومشارك في أكثر من بينالي عالمي.
فيما يجمع الفنان محمد الفرج من خلال عمله "منطق الشجر" عديدا من الآثار المادية من المناظر الطبيعية في أبها، لتقديم "تأبين شعري" للغابات البدائية التي كانت تعد رائعة ذات يوم، وباستخدام الفحم، يتتبع فروعا مقلدة للغابات داخل المعرض، وتقف شاهدا على شكل يشبه الجثة، مصنوع من الخشب المحترق.
نوافذ زرقاء
تخاطب أعمال معرض "ابحث عني بين الضباب" الحواس كلها، وبتأثره بضباب أبها يخرج لنا الفنان عزيز جمال شبحا، من خلال عمله "كيف تصطاد شبحا مبللا؟"، في كناية عن ظاهرة الغلاف الجوي وكأنه مادة متدرجة، منسدلة، مستخدما قماشا شبكيا أسود ناعما، ويستلهم فيه تقنيات الري التقليدي التي تسمى شبكات جمع الضباب، وتستخدم مادة مماثلة لاحتجاز جزئيات الماء من الضباب، وتذكر الستارة أيضا بنسيج الشيلة، وهي مادة خفيفة رقيقة ترتديها النساء تقليديا، ما يعطي العمل انطباعا أموميا حميما، ليشكل الضباب جزءا لا يتجزأ من بيئة أبها.
وانتقالا إلى النوافذ الزرقاء التي تحتل مساحة كبيرة من المعرض، في عمل فني للفنانة ريم الناصر، يحظى فيه الزائر بلقاء مباشر مع المادة الرئيسة في بيئة أبها، وهي شجرة العرعر، وكدست الناصر بقايا الخشب المحترق والمتخلص منه في هياكل تشبه الأقفاص، تذكر بالنوافذ الحضرية المعاصرة وتصاميم الأبواب، وتأخذ الهياكل شكلها من مدرجات جبال أبها.
وبالحديث عن التآزر، يخوض بنا الفنان حاتم الأحمد، وأعضاء مجتمع أبها إلى بيئة دافئة، ومن خلال فيديو طويل يظهرون وهم يرسمون أشجار العرعر بكبريتات النحاس والجير المطفأ، وهي مادة كيميائية تستخدم لحماية الأشجار، ويهدف الفنان من عمله إلى تحفيز الجمهور على التفكير في التوتر بين الوقت وإمكانية العمل الجماعي في محاولتنا إنقاذ الوضع البيئي الكارثي الحالي، ويقدم الإحساس الطويل الأمد بالزمانية اعترافا بالتاريخ والأجساد التي صنعت الماضي وسكنته، على حد تعبير الفنان عن عمله.
تناقض وتضارب
في تجربة عنوانها التناقض، يأخذنا العمل التركيبي "سلامتك" في تجربة تفاعلية، استلهم فيه الفنانان آلاء طرابزوني، وفهد بن نايف، عناصر معمارية شائعة لإبراز وقائع الزمن والطقوس والحقائق المتضاربة، ويضم العمل مكتبا لمنظمة بيئية خيالية تسمى إيفا، فعلى سبيل المثال، اختارت المنظمة البيئية مكاتب من الأخشاب لمديرها، واستخدام مئات الأوراق في تحد صارخ للبيئة، وتضارب أوقات الساعات المعلقة، فضلا عن اختيار السجاد لوضعه على الجدار مقابل الدهان على الأرضية.
واختار الفنان سعيد جبعان مصطلح الأنتروبيا لعمله الفني، ويتضمن تركيبا حركيا يلفت نظر المشاهد بحركته وضوضائه إلى أهمية الفراغ وعلاقتنا بحركتنا المستمرة بين الفوضى والنظام، الذي يحد من رغبتنا المستمرة في الحركة وإنتاج الأنتروبيا.
وفي تفسير حركة العمل، فقد اعتمد الفنان على الحركة الدورية للسلاسل داخل نظام البكرة، ويستخدم الجاذبية والأرض لتعطيل السقوط المتوقع للأشياء، ما يوجد حركات ملتفة تصاعدية غير منظمة، ويؤثر ضجيج السلاسل في التجربة الظاهرية للجمهور.
سقوط شخص
الفنان عبدالله العمودي في عمله "سقوط شخص" يعرض فيديو مع تراكيب مختلفة، فهو يدور الدمى المتعطلة وهم يشاهدون فيديو لأنفسهم داخل غرفة جلوس مألوفة، ويركز على الأشكال البشرية المتلصصة والاجتماعية كلغة للتحدث عن غرابة الخطابات البيئية التي تتمحور حول الإنسان، ويتلاعب - عن عمد - بما هو غير مألوف، في محاولة لزعزعة علاقاتنا الحالية بالمواقف الإقليمية والوطنية والعالمية بشأن البيئة.
يتضمن المعرض منطقة خاصة بالأطفال تحتوي على عدد من الأعمال الفنية المناسبة لفئتهم العمرية، للتوعية بأهمية المحافظة على البيئة، بجانب مدرج زراعي يوحي بالطبيعة الجبلية والزراعية لأبها.