ثقافة ريادة الأعمال .. كيف نبنيها؟ «1 من 3»

تبرز أمامنا في هذا العنوان الثقافة، ثم تظهر الريادة، وتأتي بعد ذلك الأعمال. ولكي يكون العنوان واضحا فيما يهدف، تمهيدا لمناقشة مضامينه، سنلقي الضوء أولا على المقصود بكل من كلماته، ثم على المعنى المستهدف من جمع هذه الكلمات الثلاث معا. إذا بدأنا بالثقافة لوجدنا أنها ترتبط بخصائص الإنسان التي يكتسبها، ربما لا إراديا، عبر نشأته، ومن خلال التوعية والتعليم، وممارسة العمل، والخبرات المكتسبة. وتتجلى أهمية الثقافة، في حياة الإنسان، من حقيقة أنها تمثل عاملا أساسيا في توجيه سلوكه وتعامله مع شؤون الحياة. ولتأثير الثقافة في السلوك، مستويات عدة تشمل، مستوى النشأة والانتماء، ثم مستوى المؤسسات والعمل المهني، إضافة أيضا إلى المستوى الشخصي.
ترتبط الثقافة، على مستوى النشأة والانتماء، بتقاليد الأمم وتراثها وأعرافها، ومعطيات التعليم التي تقدمها، ونشأة الإنسان فيها، وحصيلة سلوكه المكتسب من خلالها. وتتعلق الثقافة على المستوى المهني، أو على مستوى المؤسسات، بتوجيه هذه المؤسسات لسلوك منسوبيها، لكي يكون لها، عبر ذلك، السمعة التي تتوخاها، والشخصية المتميزة التي تتطلع إليها، ضمن البيئة المحيطة بها. ونأتي إلى الثقافة على المستوى الشخصي، أو على مستوى الفرد، فهذه تشمل كل ما سبق، لكن مع إضافة مكتسبات جديدة تأتي بها خبراته في الحياة، ويسهم فيها تفكيره، وتؤثر فيها قناعاته التي تسهم في توجيه سلوكه.
بعد كلمة الثقافة ننتقل إلى كلمة الريادة، وتعني التميز والسبق في تقديم معطيات في مجال من المجالات. والرائد هو من راد أو تقدم وأدى عملا أو أعطى منجزا مفيدا غير مسبوق في هذا المجال أو ذاك. أي أن الريادة ترتبط بالمجال المطروح. وهناك باستمرار رواد في المجالات العلمية يقدمون معطيات غير مسبوقة، وهناك أيضا رواد في المجالات الأدبية، وغيرها من المجالات المعرفية. وينال بعض هؤلاء جوائز تقديرية على ما يقدمونه، مثل جائزة نوبل، جائزة الملك فيصل، وغيرهما. ولا يقتصر الأمر على المجالات المعرفية، فهناك رواد في النشاطات الرياضية، والأعمال الفنية، وهؤلاء لهم أيضا جوائزهم التقديرية. ولا يوجد مجال من مجالات الحياة إلا وله رواد تميزوا فيه، ورواد آخرون قادمون في المستقبل.
ونصل، بعد ما سبق، إلى كلمة الأعمال، حيث تتمتع هذه الكلمة بجانبين، تبعا للمقصود بها. أحدهما جانب عام يرتبط بالكلمة "عمل Work"، التي تنطبق على أي نشاط كان، والآخر جانب خاص، وهو المقصود بهذا المقال، ويتعلق بكلمة "العمل المهني Business" الذي يركز على النشاط الاقتصادي وتبعاته الاجتماعية، سواء كان زراعيا أو صناعيا أو تجاريا أو خدميا. ويتميز العمل المهني عن الأعمال الأخرى في أنه يولد الثروة ليسهم بذلك في التنمية الاقتصادية، كما أنه يؤدي إلى تشغيل اليد العاملة ليعزز بذلك التنمية الاجتماعية. وتسعى الدول، في تخطيطها للمستقبل، إلى تفعيل هذه التنمية، بل التنافس على تعظيم معطياتها.
وهكذا يكون ما سبق قد ألقى الضوء على كل من الكلمات الثلاث، الثقافة والريادة والأعمال، ناظرا إلى كل منها بشكل مستقل عن الكلمتين الأخريين. ولعلنا نبدأ الآن بالنظر إلى هذه الكلمات عندما تأتي معا. فإذا قلنا، على سبيل المثال الريادة والأعمال معا دون ذكر الثقافة، فإننا نخرج بتعبير "ريادة الأعمال Entrepreneurship" الذي يأتي بكلمة واحدة في اللغة الإنجليزية. وبالطبع تنطلق ريادة الأعمال المهنية، أي السبق في إطلاق مؤسسات أعمال داعمة للتنمية، من الإنسان الذي يدعى عندئذ بـ "رائد الأعمال Entrepreneur".
ولرائد الأعمال توصيف متداول يقول "إنه الإنسان الذي يبدع عملا مهنيا، ويتحمل مخاطره، ويستفيد أيضا من معطياته". وينظر إلى رائد الأعمال على أنه مبتكر ومولد للأفكار، أو ربما ممكن فاعل لها، قادر على تحويلها، أو ربما قيادة تحويلها بالتعاون مع آخرين، إلى سلع وخدمات متميزة وإجراءات فاعلة غير مسبوقة. ولا تكون مثل هذه السلع والخدمات بالضرورة استجابة لحاجة في السوق، بل قد تكون استباقية، يؤدي وجودها في السوق إلى توليد مثل هذه الحاجة. بذلك يكون لرائد الأعمال دور مهم في المجتمع، يسهم في تنميته وزيادة إمكاناته، ويعزز قدرته على المنافسة في السباق على التميز الذي يشهده هذا العصر.
تحرص الأمم الطامحة إلى التقدم وبناء القدرة على المنافسة على تهيئة الأسباب التي تؤدي إلى تفعيل ريادة الأعمال في أبنائها. وهنا يبرز دور الثقافة، حيث يكتمل ترابط الكلمات الثلاث "ثقافة ريادة الأعمال". فهدف هذه الثقافة، بناء على ما تقدم، هو العمل على توجيه سلوك الإنسان نحو أن يصبح رائدا للأعمال، وقادرا على تقديم معطيات متميزة تدعم القدرة على المنافسة، وتفعل التنمية وتعزز استدامتها. فالمجتمع الذي تسود عقلية ريادة الأعمال بين أبنائه، يصبح مجتمعا متطورا قادرا على العطاء، ومتمتعا بالتميز على المجتمعات الأخرى. لكن السؤال المهم الذي يظهر أمامنا هنا هو "كيف نبني ثقافة ريادة الأعمال" في المجتمع؟ وكيف نفعل عطاءها ونحقق الفوائد المرجوة منها؟
هناك متطلبات لبناء ثقافة ريادة الأعمال في المجتمعات، وهناك عبر هذه الثقافة مردود لهذه المتطلبات يتمثل في معطيات تنموية مأمولة تكسبها المجتمعات المعنية. وعلى ذلك يمكن النظر إلى تكاليف هذه المتطلبات على أنها استثمار ضروري للمستقبل. وهناك، على أرض الواقع، إدراك قائم لأهمية بناء هذه الثقافة على المستويين المحلي والدولي، وفيما يلي مثال حول كل من هذين المستويين.
على المستوى المحلي، طرح برنامج تنمية القدرات البشرية في وثيقته الإعلامية الصادرة في 2021 موضوع الاهتمام ببناء ثقافة ريادة الأعمال، مقرونة بالابتكار الذي تستند إليه، كوسيلة لتحقيق طموحاته في إعداد المواطن المنافس عالميا. وعلى المستوى الدولي، صدر عن منظمة التربية والثقافة والعلوم الدولية UNESCO، بالتعاون مع منظمة العمل الدولية ILO، كتابا يحمل عنوانا رئيسا يقول "نحو ثقافة ريادة الأعمال في القرن الـ21"، كما يحمل عنوانا فرعيا يقول "تحفيز ريادة الأعمال عبر التعليم الثانوي". ولنا عودة لاستكمال الموضوع، ومناقشة هذين المثالين، في المقالين المقبلين بمشيئة الله... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي