الثقافة وتحدي التنمية «2»

هناك إجماع على مركزية الثقافة في المجتمع، لكن دورها في التنمية الاقتصادية أصبح مركز اهتمام متزايد، لتأثيرها في أنماط التصرفات الجماعية والفردية. الإشكالية أن تعريف الثقافة، فضلا عن قياس نطاقاتها، ومدى التركيز لتحديد مدى التأثير، دائما صعبة وجدلية. لذلك جاء طرح جريت هوفستيد، من خلال إطار فكري وتحليلي حتى تطوير مؤشرات لقياس مقارن بين المجتمعات. في الأسبوع قبل الماضي، قدمت تعريفا عن الموضوع، وشرحا قصيرا لاثنين من النطاقات الثقافية الستة التي ذكرها في الإطار.
النطاق الثالث، الذكورية مقابل الأنوثة، حيث يحاول في هذا البعد مقارنة وقياس إلى أي مدى يقدم المجتمع الذكورية العرفية، كالشدة والمواقف الصلبة في الحياة العامة مقابل تعامل بين الجنسين أقرب إلى التكافؤ والنعومة والتوافق. هناك نواح تربوية في توقع الوالدين من أبنائهما وبناتهما، وهذا يمتد إلى قيادة الدور المجتمعي والدخل الأعلى، فمثلا العناية بالضعيف أعلى في المجتمعات الأقرب للأنوثة. على مقياس الذكورية نجد سلوفاكيا واليابان والمجر والنمسا وفنزويلا، بينما السويد والنرويج ولاتفيا وهولندا والدنمارك أقرب إلى الأنوثة. النطاق الرابع، تفادي حالة عدم اليقين. يحاول في هذا البعد قياس تمايز المجتمعات في نظرتها وتعاملها مع الأمور من حيث درجه المرونة، إذ هناك مجتمعات ترى الأمور إما أسود وإما أبيض، ولذلك التغيير متعب لأنه يزيد عدم اليقين. المجتمعات العالية في هذا البعد تحاول عامة المحافظة على التقاليد الاجتماعية وترتبط في أذهانهم حول السلامة والرخاء، وبالتالي تؤثر في المخاطر والمبادرات التي يأخذ بها الأفراد بما في ذلك من استحقاقات اقتصادية. نجد اليونان والبرتغال والأوروجواي ومالطا في أعلى السلم، بينما نجد سنغافورة والدنمارك والسويد وهونج كونج وفيتنام والصين، أقرب إلى قبول حالة عدم اليقين.
النطاق الخامس، مدى الانحياز للمدى البعيد مقابل القصير في تفسير الماضي والحاضر والمستقبل. المجتمعات التي تميل إلى المدى البعيد تهتم أكثر بالتخطيط بربط التاريخ مع الحاضر والمستقبل، إذ لديهم وعي عن الماضي، وبالتالي تجدهم أكثر اعتدالا في مصروفاتهم ومرونة في الأوقات الصعبة. هذا النوع من المجتمعات يهتم بالتعليم والتوفير والتخطيط، تقابلهم مجتمعات تقلل من قيمة الماضي ولا تجد أهمية لحياة الآباء والأجداد من حيث تأثيرها فيهم. لذلك تجد مصروفاتهم ببذخ ويأخذون بدور الغيبيات حين تقع المصاعب. في أعلى السلم نجد كوريا وتايوان واليابان والصين وألمانيا، وفي أدنى التركيز نجد كولومبيا وترينداد والمغرب وإيران وفنزويلا. النطاق السادس، التحكم في النزعات مقابل التساهل فيها. بعد يحاول قياس مدى تعامل المجتمع للمتعة والانضباط. المجتمعات عالية التركيز في هذا البعد تشجع التعبير عن الرغبات البشرية، وتشجع المجتمع على تحقيقها. تقابل ذلك مجتمعات ترى أن حصة الأفراد محسوبة، وتقليل الانغماس في الاستهلاك الظاهر، وربما يشعرون بالخجل من الدخول فيما يعتقدون أنها سفاهات، وربما أيضا يعتقدون أن أضدادهم أقرب للضياع. في قياس هذا البعد نجد فنزويلا والمكسيك والسلفادور وكولومبيا وترينداد، بينما نجد باكستان ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا وبلغاريا وهونج كونج غير ذلك.
فلا بد لنا جميعا من التأمل ومحاولة فهم مجتمعاتنا من خلال هذا الإطار بشمولية، لعله يكون مفيدا في تحقيق الأهداف السامية لتقدم المجتمع، خاصة أن الرؤية الاقتصادية أخذت بعدة أبعاد لتحديث المجتمع ثقافيا. لا بد للجامعات ومراكز البحث الفكري من تحليل وقياس النطاقات قبل إطلاق الأحكام أو توظيفها في تشخيص مستعجل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي