ثقافة ريادة الأعمال .. كيف نبنيها؟ «3 من 3»
يأتي هذا المقال استكمالا للمقالين السابقين في موضوع بناء ثقافة ريادة الأعمال بين أبناء المجتمع من أجل تفعيل التنمية وتعزيز استدامتها. ففي ريادة الأعمال إطلاق لمؤسسات متميزة، وسعي إلى تنميتها لتكون قادرة على الإسهام في توليد الثروة، وتشغيل اليد العاملة. قدم المقال الأول الأسس المعرفية لثقافة ريادة الأعمال، وأبرز توجهاتها، وبين الحاجة إليها، خصوصا في هذا العصر الذي يشهد تنافسا حادا على الريادة في أعمال مبتكرة غير مسبوقة. واقترب المقال الثاني إلى ما يجري على أرض الواقع في المملكة، حيث ناقش موضوع ثقافة ريادة الأعمال، في إطار ما طرحته الوثيقة الإعلامية لبرنامج تنمية القدرات البشرية الذي يسعى إلى "إعداد مواطن منافس عالميا"، من أجل الإسهام في تحقيق رؤية المملكة 2030.
يطرح هذا المقال، استكمالا لسابقيه موضوع التعليم والتدريب في بناء ثقافة ريادة الأعمال. ويعتمد في ذلك على مناقشة معطيات رئيسة وردت في كتاب يحمل عنوانا رئيسا يقول، "نحو ثقافة ريادة الأعمال في القرن الـ21"، كما يحمل عنوانا فرعيا يقول، "تحفيز ريادة الأعمال عبر التعليم الثانوي". وتأتي أهمية الكتاب من صدوره المشترك عن منظمتين دوليتين تتبعان الأمم المتحدة هما منظمة التربية والثقافة والعلوم الدولية UNESCO، المعنية بشؤون المعرفة، ومنظمة العمل الدولية ILO، المعنية بقضايا سوق العمل. والمعرفة متطلب مهم لتمكين ثقافة ريادة الأعمال، كما أن سوق العمل مستهدفة رئيسة لريادة الأعمال. وعلى الرغم من أن الصدور الأول للكتاب كان في 2006، إلا أن الأفكار، بشأن بناء ثقافة ريادة الأعمال، لا تزال تشغل بال المهتمين بالتنمية في مختلف دول العالم.
يلاحظ الكتاب أن عدد سكان العالم يشهد تزايدا مطردا، لكن سوق العمل التقليدية، خصوصا بالنسبة إلى الشباب، لا تأخذ الاتجاه ذاته، ويؤدي ذلك إلى خسارة العالم طاقات بشرية حية وفاعلة وقادرة، لو أتيحت لها الفرص المناسبة، على الإبداع والابتكار والإسهام في التنمية. ويرى الكتاب، نظرا إلى ذلك، ضرورة الاهتمام بتطوير التعليم الثانوي بما يفعل الطاقات البشرية الناشئة، ويمكنها بشكل أفضل من الإسهام في التنمية المنشودة.
تتمثل الفكرة المركزية التي يعرضها الكتاب بشأن تطوير التعليم الثانوي في اعتبار أن التعليم يجب ألا يقتصر على اكتساب الطالب المعرفة الأكاديمية التقليدية، بل يجب أن يشمل أيضا إعداد الطالب للتعامل مع متطلبات الحياة، وتزويده بالمهارات اللازمة لذلك، إضافة إلى الاهتمام بتفعيل مرونته في الاستجابة لمتغيرات الحياة، وتطوير قدرته على إدارة تجدد المتطلبات، والاستفادة من تجدد الفرص المتاحة أيضا. ويرى الكتاب أن تأهيل الطالب بمهارات الحياة، ومرونة الاستجابة للمتغيرات، يفعلان استيعابه ثقافة ريادة الأعمال التي تنطلق من واقع معطيات الحياة، وتنظر بروح الأمل، وإرادة العمل، إلى آفاق مستقبل تراه واعدا بالعطاء والتميز.
لا يكتفي الكتاب بتوجيه التعليم الثانوي نحو اهتمام أكبر بشؤون الحياة ومتطلباتها ومعطياتها فقط، بل يتحدث أيضا عن مناهج تختص "بتعليم ريادة الأعمال للجميع". وفي هذا المجال، يتبنى الكتاب تعريفا متداولا لهذا التعليم يقول التالي، "إنه المعرفة التدريسية المنظمة التي تطرح المعلومات وتقدم التدريبات، وتعطي تأهيلا متكاملا للمهتمين بريادة الأعمال، والساعين إلى المشاركة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وذلك عبر نشاطات تستهدف الارتقاء بالتوعية بريادة الأعمال، والسعي إلى وضعها موضع التنفيذ، وإنشاء مؤسسات العمل الصغيرة، ودعم تطورها".
وعلى صعيد المناهج المطلوبة لإعداد رائد الأعمال المؤهل، يورد الكتاب منهجا لدورة تدريبية خاصة في ريادة الأعمال أعدتها منظمة العمل الدولية ILO تحت شعار، "تعرف على شؤون الأعمال KAB". يشمل هذا المنهج تسع وحدات تعليمية متسلسلة، يستغرق تقديمها نحو "120 ساعة دراسية"، تبعا لتقديرات المنظمة، أي نحو شهر واحد من التفرغ الكامل. تهتم الوحدة التعليمية الأولى بالتعريف بمعنى المؤسسة وما يرتبط بها، وتركز الثانية على التعريف بريادة الأعمال. وتأتي الوحدة الثالثة لتطرح صفات رائد الأعمال. ثم تهتم الوحدة الرابعة بمسألة كيفية اكتساب هذه الصفات، وتركز الخامسة على أساليب إيجاد أفكار مناسبة للعمل في مجال ريادة الأعمال. تتطرق الوحدة السادسة، بعد ما تقدم، إلى كيفية تنظيم المؤسسة، وتتبعها السابعة بموضوع كيفية تشغيل المؤسسة. ثم تأتي الوحدة الثامنة لتبحث في الخطوات التالية لما سبق، التي تمكن المتدرب من أن يصبح رائد أعمال. وفي الختام، تبين الوحدة التاسعة للمتدرب كيفية إعداد خطة عمل لطموحاته المستقبلية. وهكذا نجد أن منهج الدورة التدريبية يتسم بالتدرج، حيث يبدأ من التعريف بالمؤسسة، وريادة الأعمال، ورائد الأعمال وصفاته، والأفكار المطلوبة، وصولا إلى تحديد شؤون تنظيم وتشغيل المؤسسات، إضافة إلى خطوات تمكين رائد الأعمال، ودعم خططه المستقبلية.
يستعرض الكتاب، إضافة إلى ما سبق، تجارب بعض الدول حول التعليم الذي يستهدف غرس ثقافة ريادة الأعمال في الناشئة، من أجل تفعيل إمكاناتهم وتوجيهها نحو الابتكار وريادة الأعمال. ومن أمثلة الدول التي تم ذكرها وبيان خبرتها المكتسبة في هذا المجال، كل من: فرنسا، اسكتلندا، النرويج، أستراليا، الأرجنتين، إندونيسيا، ماليزيا، تايلاند، جنوب إفريقيا، ونيجيريا، إضافة إلى بعض الدول العربية.
وهكذا نجد أن هذا الكتاب المهم، يعد أن ريادة الأعمال تتطلب معرفة وسلوكا. وعلى هذا الأساس يدعو الكتاب إلى تطوير مناهج التعليم الثانوي باتجاه متطلبات الحياة، كما أنه يدعو أيضا إلى وضع مناهج تعليمية وتدريبية خاصة بموضوعات ريادة الأعمال. ويشير في هذا الشأن إلى خبرات دولية تغطي مختلف أنحاء العالم. وهكذا نصل إلى ختام هذه المقالات حول ثقافة ريادة الأعمال. لكن هناك كلمة أخيرة في هذا المجال.
تحتاج ريادة الأعمال، ليس فقط إلى تطوير التعليم الثانوي باتجاه متطلبات الحياة، وليس فقط إلى دورات تدريبية في ريادة الأعمال، أو خبرات مختلفة في ذلك، بل تحتاج أيضا، وعبر مراحل التعليم، إلى تدريب العقل على التفكير. فالتفكير متطلب مهم للابتكار المقترن بريادة الأعمال، ولقضايا الأعمال والتخطيط لها وإدارتها. فلنبتعد بالتعليم عن التلقي فقط، ولنشجع على التفكير والحوار الموضوعي، ولنهتم أيضا بالتعلم الذاتي.