الجامعات .. ومسألة ريادة الأعمال «1 من 2»
تقول دراسة سابقة أجرتها "رابطة الجامعات الأمريكية AAU"، حول أثر الجامعات في المجتمع، إن لهذا الأثر ثماني فوائد رئيسة تؤدي إلى الارتقاء ببيئة المجتمع وقدراته. وتشمل هذه الفوائد: تعزيز الابتكار، ودعم الاقتصاد، وزيادة فرص العمل، وتحسين الصحة العامة، وتفعيل العمل التطوعي، وخفض معدل الجرائم، وتحسين مستوى التفاهم بين الثقافات المختلفة، وبناء حياة ثقافية أفضل.
وتحتاج الجامعات، لكي تستطيع الارتقاء بالمجتمع بشكل متواصل، إلى مواكبة التطور المعرفي المتسارع، والاستجابة لتغيرات خصائص العصر ومعطياته ومتطلباته، فضلا عن سعيها إلى إيجاد أفكار وتوجهات متجددة تعزز تأثيرها الإيجابي في المجتمع. أي إن على الجامعات، وهي تبني قدرات المستقبل، أن تجعل من نفسها واحة خصبة من الأزهار المتجددة والثمار المتكاثرة التي ترسم ملامح المستقبل. في إطار متطلبات هذه الواحة الخصبة، تبرز مسألة ريادة الأعمال.
هناك، في مسألة ريادة الأعمال، تقرير لافت موجه إلى الجامعات، يقدم توصيات، تستهدف تفعيل أثرها في مسألة ريادة الأعمال. والمطلوب الرئيس، في هذا المجال، هو تفعيل توجه الناشئة نحو الإبداع والابتكار، وإطلاق المؤسسات والأعمال الرائدة التي تؤدي إلى توليد الثروة، وتشغيل اليد العاملة، والإسهام في التنمية. ويحمل التقرير اللافت عنوانا يقول "دليل عمل لجامعات ريادة الأعمال".
تبرز أهمية التقرير من خلال صدوره عن مؤسستين عالميتين شهيرتين هما "المفوضية الأوروبية EC"، الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، الذي يتكون من 26 دولة أوروبية، و"منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD"، التي تعرف أيضا بنادي الدول الغنية، ويبلغ عدد الدول الأعضاء فيها 34 دولة تتوزع على مختلف قارات العالم. وعلى الرغم من أن تاريخ صدور التقرير هو 2012، إلا أن دينامية التوجهات المستقبلية التي يطرحها وتؤكد استمرارية تطور الجامعات واهتمامها بالتركيز على ريادة الأعمال، تبقى أفكارا مهمة تستحق المناقشة، وربما التطوير نحو الأفضل أيضا.
يطرح التقرير توصياته عبر تحديد متطلبات ترتبط بسبعة موضوعات رئيسة، يرى أن على الجامعات المهتمة بريادة الأعمال الحرص على القيام بتلبية هذه المتطلبات. يرتبط الموضوع الأول للمتطلبات "بقيادة الجامعة وشؤون حوكمتها". ويهتم الموضوع الثاني بمتطلبات "الإمكانات التنظيمية للجامعة وعلاقاتها مع الآخرين". ويركز الموضوع الثالث على متطلبات "تطوير ريادة الأعمال في التعليم والتعلم". ويبين الموضوع الرابع متطلبات "المسارات التي يسلكها رواد الأعمال". ثم يطرح الموضوع الخامس متطلبات "علاقات الجامعة الخارجية وتعاونها المعرفي مع مؤسسات الأعمال". ويعطي الموضوع السادس متطلبات "تعزيز موقع الجامعة كمركز دولي". ويقدم الموضوع السابع أخيرا متطلبات "قياس أثر الجامعة في أساس التعريف بها كجامعة ريادة أعمال Entrepreneurial University".
سنناقش فيما سيأتي من هذا المقال متطلبات كل من الموضوعين الأول والثاني، أي "قيادة الجامعة، وشؤونها التنظيمية"، على أن نناقش في المقال المقبل متطلبات الموضوعات الخمسة الباقية الأخرى، لنستكمل بذلك صورة الجامعة، كما يجب أن تكون، "كجامعة ريادة الأعمال" على أساس ما يطرحه التقرير، مع بعض الملاحظات بشأنها.
يطرح الموضوع الأول الخاص بموضوع "قيادة الجامعة وشؤون حوكمتها" خمسة متطلبات مهمة. يرتبط المتطلب الأول باستراتيجية الجامعة، ويقضي بوجود توجه أساسي فيها نحو ريادة الأعمال. ويركز المتطلب الثاني بعد ذلك على الالتزام بتنفيذ هذا التوجه، مع الحرص على أن يتمتع مصدر هذا الالتزام بمكانة عالية في إدارة الجامعة، تجعله مؤهلا لحمل الصدقية اللازمة للتنفيذ. ثم يبرز المتطلب الثالث الذي يركز على الحاجة إلى وجود نموذج لنشاطات ريادة الأعمال في الجامعة، يضعها في إطار متكامل يعزز دورها المأمول. ويأتي المتطلب الرابع، إثر سابقه، ليعبر عن الحاجة إلى تمكين أساتذة الجامعة، ووحداتها ذات العلاقة، من الصلاحيات اللازمة لتفعيل نشاطات ريادة الأعمال. ثم يهتم المتطلب الخامس بجعل الجامعة قوة دافعة لريادة الأعمال على مستوى المجتمع المحلي، والمناطق المحيطة به.
وننتقل إلى الموضوع الثاني في متطلبات إدارة الأعمال، وهو موضوع "الإمكانات التنظيمية للجامعة وعلاقاتها مع الآخرين" من أجل تعزيز دور الجامعة في ريادة الأعمال. يضم هذا الموضوع سبعة متطلبات. يرتبط أول هذه المتطلبات بالعمل على جعل الجامعة مركزا جاذبا للدعم الخارجي من أجل تفعيل ريادة الأعمال، والاستثمار في نشاطاتها، من قبل مصادر خارجية مهتمة بهذه الريادة. ويقضي المتطلب الثاني بوجود استراتيجية مالية للجامعة تختص بشؤون ريادة الأعمال، وتؤمن لها استمرارية الدعم. ويهتم المتطلب الثالث بإيجاد الوسائل اللازمة لتأمين علاقة إيجابية متميزة بين أساتذة الجامعة وطلابها، فهم أصحاب نشاطات ريادة الأعمال تخطيطا وتنفيذا.
ونأتي إلى المتطلب الرابع في موضوع "إمكانات الجامعة التنظيمية وعلاقاتها مع الآخرين"، حيث يتطلع هذا المتطلب إلى وجود توجه نحو توظيف الأشخاص الذين يتمتعون بقدرات متميزة في ريادة الأعمال من أجل الاستفادة من هذه القدرات. ويقضي المتطلب الخامس بعد ذلك بالعمل على تدريب منسوبي الجامعة على مهارات ريادة الأعمال، لكي يتمتعوا بالتأهيل المطلوب لنشاطات هذه الريادة، التي تعمل الجامعة على تفعيلها. وننتقل إلى المتطلب السادس الذي يهتم بالحاجة إلى إقرار محفزات وجوائز تشجع أصحاب العلاقة على بذل الجهود في تنفيذ نشاطات ريادة الأعمال، والوصول إلى نتائج متميزة. ونصل إلى المتطلب السابع والأخير في إطار الموضوع المطروح، وهو الذي يؤكد طرح المحفزات، ليس فقط من أجل تفعيل جهود أصحاب العلاقة داخل الجامعة، بل من أجل جهود العاملين من خارجها أيضا.
وهكذا نجد أن متطلبات جامعة ريادة الأعمال في الموضوعين الأولين، أي "استراتيجية الجامعة، وشؤونها التنظيمية وعلاقاتها المختلفة"، قد تضمنت شؤون التأسيس الرئيسة اللازمة لريادة الأعمال. فقد شملت توجهات رئيسة نحو هذه الريادة في الاستراتيجية، مع التزام بالتنفيذ من الإدارة العليا، إضافة إلى صلاحيات تيسر عمليات التنفيذ، ونموذج يسعى إلى ترابط هذه العمليات. ثم السعي أيضا إلى تأمين دعم مالي مستمر، وعلاقات تعاون بين جميع الأطراف، واهتمام بالخبرات، وتدريب للعاملين، وتشجيع وجوائز للتحفيز. وسنستكمل صورة جامعة ريادة الأعمال في الأسبوع المقبل بمشيئة الله... يتبع.