المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ودور «منشآت» «2 من 2»
تحدثنا في المقال السابق عن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وأهميتها في الإسهام في توليد الثروة، وتشغيل القدرات البشرية والاستفادة منها. وأبرزنا خصوصا وعلى أساس إحصائيات سابقة، الأثر الفاعل لهذه المؤسسات في إيجاد وظائف تتمتع بالجدوى، وبينا أهمية هذا الأمر في المستقبل المنظور. فمثال من الواقع القائم يقول إن عدد الوظائف في مثل هذه المؤسسات، في كوريا الجنوبية يصل إلى أكثر من 80 في المائة من مجمل الوظائف القائمة رغم وجود مؤسسات عملاقة في هذه الدولة، مثل: "هيونداي"، و"كيا"، و"سامسونج"، و"إل جي". وهناك دراسة لصندوق النقد الدولي تقول إن عدد الوظائف التي سيحتاج إليها العالم خلال الـ15 عاما المقبلة يبلغ 600 مليون وظيفة.
على أساس ما سبق، تبرز الحاجة إلى دعم الدول لإنشاء مزيد من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، في مختلف المجالات، وتفعيل دورها الاقتصادي والاجتماعي، وإسهامها في بناء مجتمعات سعيدة آمنة. وتطرق المقال السابق إلى محاور ثلاثة للدعم المطلوب شملت محورا تنظيميا، وآخر معرفيا، إضافة إلى محور المال والاستثمار. في هذا الإطار، يبرز في المملكة، دور الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، "منشآت". ويسعى هذا المقال، فيما يلي، إلى إلقاء الضوء على هذا الدور، مستخدما معلومات متوافرة على موقع "منشآت" على الإنترنت، وأخرى متاحة في ملفها التعريفي.
شهد عام 2016 تأسيس "منشآت" من أجل تنظيم قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة في المملكة ودعمه وتنميته ورعايته وفقا لأفضل الممارسات العالمية، والعمل على رفع إنتاجية هذه المنشآت وزيادة إسهامها في الناتج المحلي الإجمالي. ويلاحظ هنا استخدام مصطلح "منشأة" بدل "مؤسسة"، ربما للتعبير عن دعم التوسع في "إنشاء" المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. وتتطلع "منشآت" إلى تحقيق هدف مرحلي، في إطار مسيرة رؤية المملكة 2030. ويتمثل هذا الهدف في زيادة إسهام المنشآت الصغيرة والمتوسطة في الناتج المحلي الإجمالي من 20 إلى 35 في المائة بحلول عام 2030.
سننظر، فيما يلي، إلى الدور الذي تقوم به "منشآت" لتحقيق تطلعاتها من خلال محاور دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الثلاثة، أي: المحور التنظيمي، والمحور المعرفي، والمحور المالي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المحاور تتمتع بطبيعة متداخلة، حيث يمكن أن نجد عوامل أو جوانب مختلفة ترتبط بأكثر من محور. لكننا سنحاول تقسيم العوامل والجوانب المختلفة تبعا لمدى ارتباطها بالمحور المطروح.
إذا بدأنا بمحور الدعم التنظيمي الذي تقدمه "منشآت" لوجدنا أمامنا أربعة جوانب رئيسة. يرتبط أول هذه الجوانب بالعمل على تسهيل ممارسة الأعمال، والإجراءات المرتبطة بها. ويشمل ذلك تطوير أنظمة وقوانين تيسر مزاولة الأعمال المختلفة المرتبطة بالمنشآت الصغيرة والمتوسطة، إضافة إلى توفير ما يعرف بخدمات العملاء لهذه المنشآت، من أجل إيجاد حلول فاعلة للمشكلات الطارئة. ويؤكد الجانب الثاني العمل على تعزيز التعاون، ويتضمن ذلك تعاون هذه المنشآت مع المنشآت الكبيرة في القطاع الخاص، وتعاونها أيضا مع مؤسسات القطاع العام، ثم تعاونها مع القطاع غير الربحي، ويضاف إلى ذلك التعاون المتاح على المستوى الدولي.
يهتم الجانب الثالث للمحور التنظيمي بالعمل على تطوير المزايا التنافسية لكل منطقة، وتعزيز انتشار المنشآت الصغيرة والمتوسطة فيها، والعمل في المجالات المناسبة لخصائصها. ويركز الجانب الرابع بعد ذلك على بناء شبكات تواصل تنشيطية بين أصحاب العلاقة، غايتها تحسين أداء الأعمال وتفعيل توجهات ريادة الأعمال نحو إنشاء مزيد من المنشآت الصغيرة والمتوسطة والعمل على الاستفادة منها.
وننتقل إلى محور الدعم المعرفي الذي تقدمه "منشآت"، ويتضمن خمسة جوانب رئيسة. يهتم الجانب الأول منها بدعم الابتكار وبناء ثقافة ريادة الأعمال، لأن في ذلك تشجيعا لأبناء المجتمع على إيجاد الأفكار والمبتكرات الواعدة، والاستفادة منها في العمل على تأسيس المنشآت وتفعيلها، والتوجه نحو الإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها. وقد كان لنا على هذه الصفحة ثلاثة مقالات، حول بناء هذه الثقافة، خلال الفترة من 15 إلى 29 أيلول (سبتمبر) 2022. ويركز الجانب الثاني للدعم المعرفي على إقامة حاضنات ومسرعات أعمال غايتها رعاية المؤسسات الناشئة وتوفير سبل النجاح لها، قبل إطلاقها مستقلة في الأسواق. وكان لنا مقال حول حاضنات الأعمال يوم 20 أكتوبر الماضي.
يرتبط الجانب الثالث لمحور الدعم المعرفي بالتعليم والتدريب، أو بالأحرى بالتعليم المتوافق مع احتياجات سوق العمل، وكذلك بالتدريب الذي يعطي مهارات تحتاج إليها السوق أيضا. ويبرز الجانب الرابع شؤون الإرشاد والاستشارات ذات العلاقة بالمنشآت الصغيرة والمتوسطة. وتشمل مثل هذه الاستشارات مجالات مختلفة ترتبط بالمتطلبات القانونية، والتخطيط، والتسويق، والمحاسبة، وإدارة الجودة، والإنترنت، والفضاء السيبراني، وغير ذلك. ويركز الجانب الخامس بعد ذلك على شؤون الملكية الفكرية والمحافظة على حقوق أصحابها.
ونصل إلى محور الدعم المالي الذي تقدمه "منشآت" للمنشآت الصغيرة والمتوسطة كي تستطيع المضي قدما في العمل وتقديم المعطيات المأمولة، يشمل هذا المحور ثلاثة جوانب رئيسة. أول هذه الجوانب هو جانب وضع خطط لجلب التمويل، عبر تحفيز أصحاب المال والمستثمرين لتقديم المال اللازم للمنشآت الطموحة. ويكمل الجانب الثاني سابقه ليدعو إلى طرح برامج للتمويل والاستثمار في المنشآت الصغيرة الواعدة. ويعزز الجانب الثالث سابقيه، حيث يهتم بعرض مبتكرات وأفكار المنشآت الصغيرة على المستثمرين من أجل الاستثمار فيها، وتحويلها إلى معطيات على أرض الواقع تسهم في التنمية، وتشغيل القدرات البشرية.
وهكذا يكون هذا المقال وسابقه قد ألقيا الضوء على أهمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة، والدور الذي تقوم به الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، "منشآت" في دعم هذه المؤسسات في المملكة من جهة أخرى. ولعل من المفيد القول إن ما تم تقديمه في المقالين، سواء في المقال الأول العام، أو في الثاني الخاص بـ"منشآت"، ليس سوى ملامح رئيسة توضح بعض الأفكار الأساسية، وهناك مزيد من المعلومات التي تستحق الاطلاع والمناقشة. وعلى المبتكرين وأصحاب الطموحات المستقبلية السعي إلى التعرف أكثر على طيف المعلومات الواسع لهذا الموضوع المهم.