السيادة السياسية والنقدية «2»

في الأسبوع الماضي، تحدثنا عن عدم التطابق بين السيادتين السياسية والنقدية، بما في ذلك العوامل والخواص المشكلة للواقع الحالي، ومدى التحديات التي تواجه دولا كثيرة بحكم الواقع، وليس من منظار مثالي يروج له كثيرا في الأدبيات الاقتصادية والمالية، حيث كشفت تجربة العولمة تدريجيا عيوبه. تحدي السيادة النقدية يرتفع كلما اتجهنا نحو مصادر النقود الخاصة، لأن مصادر النقود تبدأ بالعامة، حيث سيطرة البنك المركزي كاملة، ثم العامة - الخاصة التي ينظمها البنك المركزي، ثم الخاصة التي يشرف عليها فقط. كل مصدر نقود له حيثيات وآليات خاصة به. المنطلق السليم لسيادة نقدية يبدأ بتعريف لها في ظل عولمة مالية أقوى من كل دولة خاصة كلما ضعفت مقوماتها المالية والاقتصادية.
لنبدأ بتعريف السيادة النقدية الفعالة، إذ تحددها الورقة بتلك التي تمكن الدولة من توظيف أدوات الحوكمة النقدية لإنجاز أهداف السياسة الاقتصادية. لا بد للدولة من تحديد أهدافها الاقتصادية بوضوح كي تتمكن من تحديد سياسة نقدية تخدمها بأعلى فعالية ممكنة. التفاصيل المؤسساتية ستختلف من دولة لأخرى، حسب نقطة البداية في تطورها المؤسساتي والتنظيمي. المهم مرحليا تقييم نقطة البداية وقراءة واقعية للتنظيم المؤسساتي، والتواصل مع مسؤولي التخطيط الاقتصادي. إدارة عرض نقود فعالة محصلة لتجزئة أنواع مصادر النقود لخدمة الأهداف الاقتصادية، فمثلا النقود الخاصة التي بطبيعتها أكثر تذبذبا من ناحية وأقلها سيطرة من قبل البنك المركزي (وبالتالي أقلها تطابقا مع السيادة السياسية) ضرورية لاستثمارات قد تكون واعدة وإبداعات مالية تسهم في التطوير الاقتصادي والتعامل مع المخاطر الملازمة. ستستمر التحديات، لكن السيادة النقدية التي تقدمها الورقة تتضمن نصائح في السياسة الاقتصادية والنقدية والمالية لا يمكن التغاضي عنها.
هناك مسائل تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة، لأن هناك مسائل عامة كمية ونوعية، وأيضا كل دولة تختلف حسب حالتها وظروفها. أولا، نحتاج إلى تقدير وفهم للقيود التي تواجه كل دولة، فمثلا إذا المقصود بالنقود تلك العملة التي يصدرها فقط البنك المركزي، فكل الدول لديها مستوى السيادة نفسه، لكن إذا كان المقصود التحكم الكامل في إصدار النقود في نظامها المالي، فكل الدول حتى أمريكا ناقصة السيادة النقدية، مع الاختلافات المؤثرة بين الدول (لاحظ مثلا دور الدولار والاستثمارات الأجنبية في أمريكا). ثانيا، لا بد من مقارنة دقيقة بين كل دولة وأخرى في مدى دورها وسيطرتها على مصادر النقود الثلاثة المختلفة. وأخيرا، درجة السيادة ستختلف حسب السياسات الاقتصادية ودقتها، إذ لا بد من مفاضلات اقتصادية تؤثر في مصادر النقود الثلاثة وطبيعة المؤسسات وأساليب الإدارة في كل بلد.
ربما تساعد المؤسسات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، وبنك التسويات العالمي، في تأسيس مؤشر لقياس مدى سيادة الدول نقديا. في المملكة الركن الأساس في السياسة النقدية كان وما زال استقرار سعر صرف الريال مقابل الدولار، سياسة خدمت الطابع المالي للاقتصاد الوطني. يمر العالم بموجة من ارتفاع الدولار، وأسعار الفائدة، ما يجعل التعامل مع ديون الدول، خاصة النامية منها، وخاصة تلك التي أغلب ديونها مقومة بالدولار، في حالة صعبة، كما رأينا في سريلانكا والأرجنتين ودول أخرى على حافة الإفلاس. كثير من هذه الدول سيستفيد من مراجعة حصيفة وإعادة جدولة السياسات طبقا لما تقدمه الورقة من تشخيص لسيادة نقدية فاعلة. تطور المملكة الاقتصادي يسير بخطى حثيثة من خلال الرؤية وبرامج التحول الاقتصادي، نجاح هذه البرامج سينتج عنه تعميق اقتصادي من خلال الترابط الأفقي مثل تنويع النشاطات، والترابط الرأسي مثل الصناعة والطاقة. هذا التعميق سيؤدي إلى رفع سرعة دوران النقود. تعميق الاقتصاد سيقود تدريجيا إلى استقلال السياسة النقدية، لكن ما زلنا في المراحل الأولى. السياسة النقدية، كما هي آلية مناسبة، لكن دورها تفاعلي وكامن ينتظر تعميقا اقتصاديا وربما تنسيقيا مع دول المنطقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي