لعبة كرة القدم .. ودروس مستفادة تقدمها
كان حدثا رائعا، كان منطلقا للحماس والثقة، وكان محفزا لنشاطات المستقبل وطموحات التفوق، ليس في مجال كرة القدم فقط، بل في شتى المجالات. كان أيضا هدية ثمينة من المملكة إلى عالميها العربي والإسلامي، فاحتفالات الحدث لم تقتصر على المملكة وحدها، بل عمت أرجاء كثيرة في هذين العالمين. على مستوى العالم، كان الحدث مفاجئا، لقد تفوق فريق كرة القدم السعودي الذي يحمل التصنيف الـ "51" لدى الاتحاد الدولي لكرة القدم FIFA لـ 2022 على فريق الأرجنتين الذي يحمل التصنيف "3" لدى الاتحاد ذاته. جاء هذا الانتصار في اللقاء الدوري لكرة القدم الذي يشهده العالم كل أربعة أعوام، وتستضيفه حاليا، في دورته الـ 22، دولة قطر بتنظيم متميز مشهود.
ليس النجاح في كرة القدم أمرا سهلا، فالعالم بأسره يتنافس على ذلك. التنافس على هذا النجاح قائم على مستوى الأفراد اللاعبين، وعلى مستوى الخبراء المدربين، وعلى مستوى النوادي الرياضية، فضلا أيضا عن مستوى الدول. ويضاف إلى كل ذلك الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، بل السياسية، التي تواكب هذا التنافس.
ينظر هذا المقال في الدروس التي يقدمها التوجه العالمي نحو التميز في لعبة كرة القدم، للمجالات الأخرى. ففي هذه الدروس ما يمكن أن يحفز هذه المجالات على السعي أيضا نحو التفوق وتحقيق إسهام أكبر في معطيات الحياة المختلفة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هناك أمرا يميز مجال لعبة كرة القدم عن كثير من المجالات الأخرى. ويتمثل هذا الأمر في تعددية طبيعة نشاطات هذه اللعبة. ففي هذه اللعبة تعليم وتنشئة وتدريب وتمكين، وفيها عمل ومواجهة وتنافس على تقديم المخرجات المتميزة على أرض الواقع، وفيها أيضا أداء تستمر اختباراته دون انقطاع، وقد تتقلب نتائجه، لكنها تبنى من خلال ذلك خبرات مفيدة نحو استمرار التميز في المستقبل.
ولعلنا ننظر إلى دروس لعبة كرة القدم من خلال متطلبات اللعبة، لأن في هذه المتطلبات ما يماثل المتطلبات التي يحتاج إليها التفوق في كثير من المجالات الأخرى، خصوصا مجالات المنافسة والتفوق في الأداء التي تشهدها المجالات التنموية، ومجالات تمكينها في هذا العصر. وتجدر الإشارة إلى أن المتطلبات التي سنطرحها في التالي، ليست متطلبات منفصلة في أدوارها، بل هي متطلبات تكاملية تشد أزر بعضها بعضا.
لعل المتطلب الأول في مجال لعبة كرة القدم، ككثير من المجالات الأخرى، هو تمويل الفريق المستهدف، المطلوب منه القدرة على المنافسة والتفوق. والتمويل هنا ليس نفقات استهلاكية تذهب ولا تعود، بل هو "استثمار" يتمتع بعائد يتنامى مع تنامي إمكانات الفريق، وشهرته، وتفوقه في الأداء. ويأتي المتطلب الثاني، بعد ذلك، متطلعا إلى حسن "الإدارة". وللإدارة هنا جانبان، جانب الإدارة العامة لمختلف شؤون الفريق، ثم جانب الإدارة الفنية التخصصية للفريق. وتأتي أهمية الإدارة العامة، من خلال بيئة العمل التي تبنيها على محاور ثلاثة تشمل محور استقطاب اللاعبين والناشئة الواعدين، ثم محور تنظيم وتوجيه المهمات الداعمة للمتطلبات الفنية، إضافة إلى محور النشاطات والعلاقات الخارجية، وإقامة المباريات وإدارتها، وجذب المشجعين إليها.
وننتقل إلى جانب الإدارة الفنية التي تتمثل في شخص المدرب الذي يعطى صلاحيات خاصة في توجيه الفريق، ليكون في المقابل خاضعا للمساءلة عن أي تقصير. في هذا الإطار، يبرز المتطلب الثالث ليركز على صفات "المدرب"، أي صفات "المدير الفني" للفريق. وهناك خمس صفات رئيسة يجب أن يتحلى بها. فعلى المستوى الشخصي، يجب أن يتحلى بشخصية راعية ومحببة، وصارمة في الوقت ذاته، ليكون بذلك مقنعا، وبصورة خاصة لأعضاء الفريق. وعلى المستوى المعرفي، يجب أن يتمتع بخبرات واسعة في مهارات اللعبة، وقادرا على بنائها وتفعيلها في لاعبيه. وعلى مستوى المتابعة، يجب أن يكون مطلعا على ما يجري بشأن اللعبة، مقيما لقدرات الفرق المنافسة وتطورها. وعلى مستوى التخطيط، يجب أن يكون قادرا على وضع خطة لكل مباراة تبعا للفريق المنافس. وعلى مستوى التنفيذ يجب أن تتمتع خططه بالمرونة الكافية، في إجراء التغييرات المناسبة عند الحاجة، وذلك عند التنفيذ على أرض الواقع. وبالطبع يحتاج المدرب إلى مساعدين مناسبين من حوله، من أجل تنفيذ المهمات المختلفة لدوره المنشود.
ونأتي إلى المتطلب الرابع الذي يهتم بالموارد البشرية للفريق، أي "بأعضاء الفريق"، وهؤلاء هم صانعو نجاحاته ومنجزاته، والعمل على إعدادهم الإعداد المناسب الذي يفعل إمكاناتهم، ويضعهم على طريق التميز والنجاح. يشمل هذا المتطلب خمسة أبعاد رئيسة. يهتم أول هذه الأبعاد بالعمل على اكتشاف اللاعبين الواعدين، بما يشمل الناشئة من الأطفال الذين لم يبلغوا العاشرة من العمر، حتى من أصبحوا من اللاعبين أصحاب المهارات. ويركز البعد الثاني على التعلم والتدريب والتخصص في مواقع اللعب، فهذه المواقع بين الهجوم والدفاع تتطلب مهارات خاصة، تضاف إلى جانب المهارات المشتركة، ولا شك أن مواهب اللاعبين تختلف لتناسب هذا الموقع أو ذاك.
يأتي البعد الثالث، بعد ذلك، حاملا التوجه نحو تحقيق التميز. ويؤكد البعد الرابع ليس فقط على المحافظة على هذا التميز بل على تعزيزه بشكل متواصل أيضا ودون انقطاع، وهنا يبرز التفاعل الأهم بين المدرب وأعضاء الفريق. ويتوجه البعد الخامس أخيرا نحو التخطيط للمباريات والتدريب عليها وخوضها، والسعي إلى التميز فيها، واكتساب الخبرة، وتحقيق النجاحات المأمولة. وتجدر الإشارة هنا إلى نشاطات هذه الأبعاد الخمسة يجب أن تكون مستمرة، تبدأ ولا تنتهي، وتحافظ على الحماس، وروح التحدي، والطموح إلى التميز والنجاح.
تعطي متطلبات النجاح والتميز في لعبة كرة القدم دروسا يمكن الاستفادة منها في شتى مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك مجالات تمكين هذه التنمية. جميع هذه المجالات يحتاج إلى تمويل يعطي استثمارا يقدم مخرجات نافعة ومنافسة، ويحتاج أيضا إلى إدارة عامة تؤمن بيئة عمل محفزة، وإلى إدارة متخصصة ومؤهلة قادرة على تمكين الكفاءات وتوجيهها، ثم إلى موارد بشرية متميزة وطموحة تستطيع مواجهة التنافس العالمي، وتحقيق النجاحات المنشودة.