التنافسية .. الإنسان والمؤسسة والدولة

عندما نقول "تنافسية" تبرز أمامنا صورة لوحدة استراتيجية طموحة تسعى إلى امتلاك خصائص تميزها عن وحدات استراتيجية أخرى تماثلها. فالإنسان الفرد، كوحدة استراتيجية، يتنافس مع أفراد آخرين على التميز في صفات يسعى إلى التفوق فيها، وكذلك تسعى المؤسسات، كوحدات استراتيجية، في مجالاتها، فضلا أيضا عن توجهات الدول، بقدراتها المختلفة نحو التنافس في الصفات العامة، أو ربما في بعض الصفات الخاصة، مع الدول الأخرى. ولا شك أن القدرة التنافسية لأي دولة تكمن في القدرة التنافسية لأبنائها ومؤسساتها، فالتنافسية على مستوى الدولة مسألة تتكامل فيها إمكانات الجميع، أفرادا ومؤسسات، لتعطي القدرات المطلوبة للتميز عن الدول الأخرى، وتحقيق تنمية أفضل، ومكانة أعلى في المجتمع الدولي.
تهتم المملكة بمسألة التنافسية على كل من مستوى الأفراد، والمؤسسات، وعلى مستوى الدولة أيضا. وهناك ثلاثة شواهد رئيسة على ذلك. يتمثل الشاهد الأول في برنامج تنمية القدرات البشرية الذي يسعى، على مستوى الأفراد، إلى تأهيل مواطن قادر على المنافسة عالميا. ويبرز الشاهد الثاني في دور الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، "منشآت"، الذي يهتم، على مستوى المؤسسات، بدعم هذه المنشآت وتوفير البيئة اللازمة لنجاحها، وتفعيل قدرتها على المنافسة والنمو. ويتجلى الشاهد الثالث في المركز الوطني للتنافسية الذي يعمل، على مستوى الدولة، على تحسين البيئة التنافسية للمملكة عبر تطوير الإنتاجية نحو التميز في العطاء، والاستدامة في هذا التميز، والشمولية في التعاون والرؤية التنموية. وفيما يلي تعريف بكل من هذه الشواهد.
إذا بدأنا ببرنامج تنمية القدرات البشرية الذي يهتم بالتنافسية على مستوى الأفراد، لوجدنا أنه يطرح ثلاث صفات رئيسة للمواطن القادر على المنافسة عالميا. تشمل الصفة الأولى التمسك بالقيم والسلوكيات الإنسانية، والحرص على الالتزام الوطني، إضافة إلى تبني ثقافة العمل وحسن الأداء. وتتضمن الصفة الثانية الحصول على المهارات المعرفية الأساسية والاستجابة لمتطلباتها المتزايدة، واكتساب المهارات الحديثة، المطلوبة حاضرا ومستقبلا، مثل تفعيل التفكير وجوانبه التحليلية والابتكارية وتنمية الذكاء الاجتماعي في تصرفات الإنسان وعلاقاته مع الآخرين. وتركز الصفة الثالثة على التأهيل المعرفي والمهني في المجالات الحيوية التي تستجيب لمتطلبات العصر.
وننتقل إلى دور "منشآت" الذي يركز على التنافسية على مستوى المؤسسات. يعمل هذا الدور على دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عبر ثلاثة محاور رئيسة، محور تنظيمي، وآخر معرفي، وثالث مالي. يشمل الدعم على المحور التنظيمي شؤون تسهيل أنظمة وقوانين وإجراءات مزاولة الأعمال، وتقديم الخدمات والحلول اللازمة للمشكلات الطارئة، إضافة إلى تمكين الانتشار في مناطق المملكة المختلفة، وتعزيز التعاون المفيد محليا ودوليا. ويتضمن الدعم على المحور المعرفي مجالات التدريب والإرشاد، وتفعيل الابتكار، وتعزيز ثقافة ريادة الأعمال، والتوجه نحو التنمية، وإقامة الحاضنات اللازمة لتأهيل المنشآت الصغيرة قبل إطلاقها للعمل المستقل. ويهتم الدعم، على المحور المالي، بالعمل على جلب الاستثمارات، والقيام بعرض الأفكار والمبتكرات الواعدة لتحقيق ذلك، إضافة إلى طرح برامج للتمويل والتمكين.
ونصل إلى المركز الوطني للتنافسية، المعني بالتنافسية على مستوى الدولة. يطرح المركز، في إطار توجهه نحو الإنتاجية والاستدامة والشمولية، 14 بندا للأهداف التي يتطلع إليها والاختصاصات التي يمارسها. وتشمل هذه الأهداف والاختصاصات ثلاثة جوانب رئيسة. يرتبط أول هذه الجوانب بالبحوث والدراسات الخاصة بالبيئة التنافسية ومتطلباتها، والتخطيط لبنائها والتخلص من معوقاتها، والشراكة في ذلك مع الجهات المختلفة ذات العلاقة. ويهتم الجانب الثاني بالبعد الدولي والتقارير ومؤشرات وأدلة التقييم العالمية، ويسعى إلى الاستفادة منها في العمل على تفعيل مكامن القوة، والحد من مواطن الضعف، والتعاون في ذلك مع الجهات الدولية المناسبة. ويستفيد الجانب الثالث من معطيات الجانبين السابقين، ويعمل على بناء البيئة التنافسية على أرض الواقع، بما يحقق التميز المنشود في الإنتاجية والاستدامة والشمولية.
تبرز، في إطار الاهتمام بمؤشرات وأدلة تقييم التنافسية على المستوى الدولي، الإصدارات الدورية بشأنها التي تقدمها مؤسسات متخصصة تقوم ليس فقط بطرح نتائج تقييم المؤشرات والأدلة لكل دولة من الدول المقيمة، وقت القيام بالتقييم، بل بتصنيف الدول أيضا وموقعها النسبي بين الدول الأخرى في كل من المؤشرات والأدلة المختلفة. وهناك عدد من المؤسسات العالمية التي تعمل في هذا المجال.
تعد "منظمة حقوق الملكية الفكرية WIPO" إحدى أهم هذه المؤسسات. تصدر هذه المؤسسة، وبشكل دوري، "دليل الابتكار العالمي GII" الذي يقيم إمكانات الابتكار في الدول المختلفة عبر مؤشرات عديدة ترتبط بسبعة موضوعات رئيسة، ويقوم بتصنيفها تبعا لحالتها التنافسية في دليله الذي يجمل هذه المؤشرات. ثم هناك مؤسسة مهمة أخرى هي "المنتدى الاقتصادي الدولي WEF" الذي يصدر "تقرير التنافسية العالمية GCR"، وله دليل إجمالي مثيل يرتبط بعديد من المؤشرات التي تتعلق بـ11 موضوعا رئيسا. وهناك أيضا "معهد التنمية الإدارية IMD" الذي يصدر دوريا "نشرة المعهد للتنافسية العالمية IWCB"، وتتضمن مؤشرات كثيرة ترتبط بأربعة موضوعات رئيسة، تعطي معا، تبعا لما سبق، دليلا محددا لتصنيف الدول على أساس مؤشرات قدراتها التنافسية. وترتبط الموضوعات المختلفة لمؤشرات وأدلة هذه الإصدارات بكل من الصفات التنافسية للإنسان، والمؤسسات، والدول.
لا يقتصر أمر إصدارات تقييم حالة الدول التنافسية على المؤسسات الدولية الثلاث المطروحة، بل يتضمن أيضا عددا من المؤسسات الأخرى. وتفيد هذه الإصدارات، وما يماثلها، في بيان مكامن القوة ومواطن الضعف في الدول المختلفة، حيث يساعد ذلك على توجيه تنميتها في المستقبل. ويدخل هذا الأمر في نطاق اهتمامات المركز الوطني للتنافسية، كما أسلفنا. وربما نعود، في مقالات مقبلة بمشيئة الله، إلى مناقشة مضامين هذه الإصدارات.
لا شك أن القدرة التنافسية للدول قضية مهمة تحتاج إلى تحلي كل فرد، وكل مؤسسة، بل كل جهة حكومية، بقدرة تنافسية في مجال عملها، وذلك ضمن إطار رؤية تكاملية وتعاونية تهتم بالإنتاجية كما ونوعا، وبالاستدامة في ذلك، مع اختيار مجالات العمل المناسبة. وتمتلك المملكة البنية الأساسية لذلك عبر الشواهد الثلاثة برنامج تنمية القدرات البشرية، والهيئة العامة للمنشآت، ومركز التنافسية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي