بناء التنافسية ومسألة تمكين الموهوبين
طرح المقالان السابقان موضوع التنافسية. فقد اهتم أولهما بمستويات التنافسية المتكاملة: مستوى الفرد، ومستوى المؤسسة، ومستوى الدولة.
وبين ذاك المقال أن القدرة التنافسية تنطلق من الإنسان الفرد لترفد المؤسسة، التي يجب أن تستفيد من هذا الرافد، وتأخذ دورها في دعم تنافسية الدولة، لينعم المجتمع بالأثر الناتج عن التنافسية المتكاملة الناتجة عن هذه المستويات الثلاثة.
وأوضح المقال اهتمام المملكة بالتنافسية، وتوجهها نحو دعمها على كل من هذه المستويات، وأبرز في هذا الأمر ثلاثة شواهد مهمة شملت، برنامج تنمية القدرات البشرية الذي يسعى إلى تأهيل الإنسان الفرد وجعله قادرا على المنافسة عالميا، والهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، "منشآت"، التي تركز على تنافسية هذه المؤسسات، ثم المركز الوطني للتنافسية الذي يهتم بتحسين البيئة التنافسية على مستوى الدولة.
ألقى المقال الثاني الضوء على منهجية دولية لتقييم تنافسية الدول، المستندة بالطبع إلى تنافسية الإنسان والمؤسسات.
شملت هذه المنهجية أربعة محاور هي: الأداء الاقتصادي، الكفاءة الحكومية، حسن تنفيذ الأعمال، إضافة إلى البنية الأساسية.
وتم طرح خمسة عوامل لكل من هذه المحاور، حيث بلغ عدد عوامل تنافسية الدولة "20 عاملا".
وتضمن محور البنية الأساسية عاملا مهما على مستوى تنافسية الإنسان، جوهر تنافسية المؤسسات والدولة، وهو عامل بنية التعليم والتأهيل وتميز الأفراد وقدرتهم على المنافسة.
ويبرز في إطار هذا العامل دور مؤسسة سعودية مهمة هي مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع، "موهبة".
وغاية هذا المقال هي بيان دور هذه المؤسسة في رعاية الموهوبين وتمكين قدراتهم وتفعيلها وإعدادهم للتميز والنبوغ والإسهام في الابتكار والتنمية من موقع تنافسي متقدم.
تتطلع مؤسسة موهبة، كما هو موضح في موقعها على الإنترنت، إلى إيجاد بيئة محفزة وممكنة للموهبة والإبداع، تعزز الشغف بالعلوم والمعرفة، لتبني من خلال ذلك أفرادا يتمتعون بقدرات متميزة ومنفتحة للنمو باطراد نحو تنافسية عالمية على تقديم عطاء معرفي متفوق.
تعمل المؤسسة على تحقيق ذلك عبر أسلوب يشمل خمس مراحل أساسية، ومن خلال أقسام تؤدي خمسة نشاطات رئيسة.
وسنطرح فيما يلي هذه المراحل والنشاطات، ونقدم نبذة حول ما قدمته موهبة من منجزات رئيسة عبر الأعوام، إضافة إلى طرح نظرة إلى المستقبل بشأن تفعيل الاستفادة من القدرات التنافسية للأفراد المتميزين الذين حظوا برعاية موهبة، وذلك في المؤسسات العامة والخاصة، بما يعزز إمكاناتها التنافسية، ويدعم بالتالي القدرة التنافسية للمملكة، على مستوى العالم.
تختص المرحلة الأولى، من مراحل مسيرة رعاية الموهوبين وتمكينهم في موهبة، باكتشاف الموهوبين من بين طلاب المرحلة العمرية تسعة إلى 12 عاما، إناثا وذكورا بالطبع، إضافة إلى تقييم قدراتهم.
وتهتم المرحلة الثانية بتفعيل هذه القدرات عبر نشاطات تصمم لهذه الغاية، وتقدم للفئة العمرية 12 إلى 14 عاما.
وتركز المرحلة الثالثة على التميز، حيث توفر نشاطات داعمة ومتطورة للفئة العمرية 14 إلى 18 عاما.
وتأتي المرحلة الرابعة بعد ذلك لتهتم بالمشاركة، وإقامة شبكات تواصل بين طلاب موهبة السابقين الذين تجاوزوا 18 عاما وباتوا طلابا جامعيين أو من العاملين في الحياة المهنية.
وتبرز أخيرا المرحلة الخامسة، وهي المرحلة الخاصة بتوفير نشاطات مساندة تعزز نشاطات جميع المراحل السابقة وبرامجها وخدماتها المختلفة.
تقدم موهبة نشاطاتها في المراحل الخمس سابقة الذكر من خلال خمسة أقسام رئيسة، يأتي مركز التميز في القلب منها.
ويمثل هذا المركز المنبع الفكري لنشاطات موهبة في الأقسام الأربعة الأخرى، حيث إنه المسؤول عن تحديد متطلباتها، وتصميم إجراءاتها، وتقييم معطياتها، إضافة إلى السعي إلى تطويرها باستمرار.
وتبرز بعد ذلك نشاطات الأقسام الأربعة الأخرى. فهناك قسم يختص بنشاطات الشراكة مع المدارس والتفاعل مع الموهوبين ورعايتهم وتعزيز إمكاناتهم عبرها.
وهناك قسم يقدم برامج معرفية إثرائية متقدمة للموهوبين، تركز على موضوعات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات STEM، وتقام داخل المملكة وخارجها بالتعاون مع جامعات محلية وأجنبية متميزة.
ومن أقسام النشاطات الأخرى قسم يقدم برامج تهتم بتأمين الإرشاد اللازم للموهوبين، وتفعيل قدراتهم في البحث والإبداع والابتكار، عبر مشاريع علمية توضع لهذه الغاية، وتنفذ بالتعاون مع وزارة التعليم.
ثم هناك أيضا قسم يهتم بشؤون المنافسة، وتعزيز روح التنافسية، حيث يستند في ذلك إلى ما حازه الموهوبون من رعاية وتمكين، ليطلق قدراتهم في ساحات المنافسة محليا ودوليا في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات.
ويأتي الاهتمام بهذا المجالات من حقيقة أن الإبداع والابتكار فيها هو المحرك الرئيس لتحقيق التنمية الاقتصادية وتعزيز استدامتها.
حققت موهبة، من خلال تنفيذ نشاطاتها عبر مراحل أسلوبها في العمل، منجزات تصب في تنمية القدرة التنافسية للموهوبين، لكي يكونوا رافدا للإمكانات التنافسية للمؤسسات، ويسهم في القدرة التنافسية للمملكة.
وشملت هذه المنجزات، على سبيل المثال لا الحصر، التعرف على أكثر من 160 ألف موهوب، من الذكور والإناث بالطبع، ووضع أكثر من 150 منهجا تعليميا خاصا بالموهوبين، وتنفيذ أكثر من 570 برنامجا في إطار نشاطات إثرائهم المعرفي، إضافة إلى أكثر من 60 ألف مشروع بحثي.
وحصل طلاب موهبة، عبر مشاركتهم في المنافسات العالمية، على 109 جوائز، وعلى 524 ميدالية، وتم قبول 336 منهم في أفضل الجامعات العالمية.
وقد حرصت موهبة في عملها على بناء خبرة جمعية، في مجال رعاية الموهوبين وتمكينهم، مع شركاء مثيرين، بينهم 72 على المستوى الوطني، و14 على المستوى الدولي.
وفرت موهبة البيئة المناسبة لتنمية القدرات المتميزة لكثير من الناشئة، بل مكنت هذه القدرات من المنافسة دوليا أيضا، والأمل أن يزداد هذا العمل باطراد ويتوسع.
لكن ذلك يبقى غير كاف ما لم تصل إمكانات هؤلاء وقدراتهم إلى المؤسسات، وما لم تلق البيئة اللازمة للعطاء المتميز في هذه المؤسسات.
فكما احتاج الناشئة المتميزون إلى بيئة موهبة المناسبة لتمكين قدراتهم، يحتاج الكبار المتميزون إلى بيئة مناسبة، في مؤسسات الأعمال المختلفة، لإطلاق هذه القدرات، والارتقاء بالقدرة التنافسية لهذه المؤسسات، والإسهام أيضا في تفعيل القدرة التنافسية للمملكة على مستوى العالم.