مثقف ذكي آلي .. يدعوك إلى المحادثة

كيف يكون مثقفا، وكيف يكون ذكيا، ثم يكون آليا. إنه أحد أبناء الذكاء الاصطناعي الأكثر شهرة في الوقت الحاضر، والسبب في هذه الشهرة هو سعة اطلاعه وقدرته على التعبير بلغات عديدة، فضلا عن توافره على الإنترنت مجانا، على نطاق واسع.

اسمه الكامل هو Chat Generative Pre-trained Transformer: ChatGPT، ولعل الترجمة العربية المعقولة التي تعكس المعنى الفعلي، وليس الحرفي، لهذا الاسم، بعد تجربة المحادثة معه، هي "المحدث المدرب"، وهو محدث بكتابة نصوص حديثة، وليس بقولها صوتيا.

ويعرف هذا المتحدث عن نفسه على أنه "نموذج لغة (لغوي) كبير قادر على التحدث بأكثر من اللغات (لغة)، بما في ذلك اللغة العربية". ويلاحظ التصحيح اللغوي لهذا التعريف بين قوسين، فعلى الرغم من أن محدثنا هذا قادر فعلا على الحديث بالعربية، لكن العربية لديه ليست بين اللغات العشر الأولى التي يدعي أنه الأكثر إجادة فيها.
تشمل اللغات العشر التي يقول محدثنا الذكي إنه أكثر إجادة فيها، وذلك على الترتيب، كلا من "الإنجليزية، الإسبانية، الصينية، الفرنسية، الألمانية، الإيطالية، البرتغالية، الروسية، اليابانية، والكورية".

ويأتي ذلك على الرغم من أن العربية تحتل المركز الخامس بين لغات العالم من حيث عدد الناطقين بها كلغة أم، وأنها الرابعة من حيث الانتشار الجغرافي، ومن حيث استخدامها في مجال العلاقات الدولية. وقد يكون هناك سببان رئيسان لذلك. أولهما محدودية النشر باللغة العربية مقارنة باللغات الأخرى، ما لا يسمح بتدريب محدثنا عليها بالقدر اللازم، كما في اللغات الأخرى.

وثانيهما أن محدثنا ربما لا يترجم، حاليا، كل ما يستطيع التحدث به، باللغة الإنجليزية مثلا، إلى اللغات الأخرى، وإنما يعتمد في حديثه بلغة ما، وبدرجة عالية، على ما تم تدريبه عليه بهذه اللغة. وقد نشهد تغيرات، في هذا الأمر، مع مرور الزمن.
يقدم محدثنا الذكي الآلي، عبر الإنترنت، معلومات في شتى مجالات الحياة، إجابة عن أي تساؤل يمكن أن يطرح عليه.

ويستطيع أكثر من ذلك أن يقدم لمن يرغب تقارير، ومقالات متكاملة في موضوعات مختلفة علمية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى إنسانية، وذلك بأبعاد زمنية مختلفة، تبعا للفترة الزمنية المطلوبة، في التساؤل المطروح عليه.
وتراعي النصوص التي يقدمها محدثنا الذكي، ليس فقط قواعد اللغة في صياغة جمل هذه النصوص، بل في عرضها أيضا ضمن فقرات يحمل كل منها فكرة محددة تتصل بالأفكار الأخرى للفقرات السابقة واللاحقة.

وفي هذا الإطار، يمكن أن تجد منه، في بعض الحالات، تعليقا توضيحيا يقول لك، "يرجى ملاحظة أن مهارتي في كل لغة، قد تختلف، وقد تعتمد على تعقيد الموضوع وجودة النص الذي يدخل"، أي يدخل من قبل محدثه، أو لنقل مستخدمه.
إذا قارنا ما يقدمه محدثنا الذكي من معلومات، مع ما تقدمه محركات البحث، مثل جوجل Google، لوجدنا أن محدثنا يمثل خطوة إلى الأمام في البحث عن المعلومة. فمحركات البحث تدلنا على مراجع نستطيع العودة إليها لإيجاد المعلومة المطلوبة. أما محدثنا، فيقدم لنا المعلومة منظمة وجاهزة مباشرة، وبطرح لغوي ومنطقي سليم.

التساؤلات الوحيدة التي تحرجه هي تلك التي تطلب رأيه. فإذا بدأت سؤالك له "بِمَ رأيك؟" ثم طرحت موضوعا ما، فإن الإجابة تبدأ عادة بالجملة "أنا عبارة عن برنامج كمبيوتر (حاسوبي)، لا أملك رأي (رأيا) شخصي (شخصيا)"؛ ثم تكمل، بعد ذلك، بطرح الموضوع المحدد دون إبداء أي رأي خاص. قد يتم طرح آراء آخرين في نصوص المتحدث لكن الرأي الشخصي لمحدثنا الذكي يبقى محجوبا.

قد يستطيع ذلك مستقبلا عبر محاكمة عقلية ما، لكنه في وضعه الحالي، يريد أن يكون مثقفا محايدا بلا توجهات للرأي، قد تغضب البعض.
ولد محدثنا في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي. ويعود نسبه إلى شركة تدعى "الذكاء الاصطناعي المفتوح Open-AI"، ومقرها مدينة سان فرانسيسكو San Francisco، التابعة لولاية كاليفورنيا California الأمريكية.

أسست هذه الشركة في كانون الأول (ديسمبر) 2015، وذلك على يد مجموعة من رواد الأعمال، أبرزهم رجل الأعمال الشهير إيلون مسك Elon Musk، الذي استقال من عضوية مجلس إدارتها في 2018، لكي يتفرغ لأعماله الأخرى. وتعرف الشركة نفسها على أنها شركة بحثية تتطلع إلى تطوير الذكاء الاصطناعي والارتقاء بإمكاناته من أجل تحقيق فوائد للإنسانية بأسرها. وللشركة عدد من المخرجات، أبرزها محدثنا المدرب مسبقا ChatGPT.

وحظيت الشركة بشراكة مع شركة مايكروسوفت Microsoft المعروفة، حيث استثمرت هذه الشركة "مليار دولار" في شركة الذكاء الاصطناعي Open-AI في 2019، ثم "عشرة مليارات دولار" أخرى في كانون الثاني (يناير) 2023.
يبدو محدثنا المثقف الذكي الآلي أوسع ثقافة واطلاعا من أي مثقف بشري على وجه الأرض، على الرغم من أن الزمن بين تأسيس شركته الأم من جهة، وبداية إطلاقه من جهة أخرى، لا يتجاوز سبعة أعوام.

فقدرة خوارزميات الذكاء الاصطناعي على التعلم تفوق بكثير قدرة الإنسان على هذا التعلم في أمرين أساسيين: أولهما السرعة، فإذا كان الإنسان قادرا على استيعاب معلومة ما في دقائق، فإن الآلة قادرة على استيعاب ما يمثلها في أجزاء من مليون من الثانية.

أما الأمر الثاني، فهو أن ذاكرة الإنسان محدودة، أما ذاكرة حاسوب الذكاء الاصطناعي، فهي عمليا بغير حدود، فضلا عن حقيقة أن الحاسوب يستطيع تلقي المعلومات من مصادر عديدة في وقت واحد، أما الإنسان فيستطيع تلقي المعلومات من مصدر واحد فقط، في أي وقت محدد.
إذا كان محدثنا الذكي الآلي متفوقا على الإنسان في التعلم واستيعاب المعرفة، فهو ليس متفوقا عليه في التفكير والإبداع والابتكار، بل إن الإنسان متفوق في ذلك. وتحتاج هذه الحقيقة إلى التفعيل في مناهج التعليم.

فبالتعليم التلقيني المعتاد، سيجد الإنسان نفسه عاجزا أمام الذكاء الاصطناعي، وفي التعليم المستند إلى التفكير وثقافة الإبداع والابتكار، سيكون الذكاء الاصطناعي وسيلة للإنسان، وليس بديلا عنه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي