النمو العالمي .. الصورة ليست قاتمة
خلال الأشهر الأخيرة من العام الماضي، كانت الأغلبية العظمى من التوقعات لوضعية الاقتصاد العالمي متشائمة وسوداوية في العام الحالي، حتى إن كريستالينا جورجييفا رئيسة صندوق النقد الدولي، تحدثت عن إمكانية أن يدخل ثلث هذا الاقتصاد في حالة من الركود التي لن تكون قصيرة.
ويبدو واضحا أن بعض المؤشرات الإيجابية بدأت تظهر على الساحة، وإن كانت ليست "مبهرة" على الأقل في الوقت الراهن.
فالمشهد العام ليس ورديا، لكنه بات أقل حدة مما كان يعتقد، وهذه نقطة محورية لأنها تقلل من ضغوط حالة عدم اليقين التي يمر بها الاقتصاد العالمي ككل، بفعل جائحة كورونا، والحرب الدائرة في أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، وتزايد الضغوط من جهة الموجة التضخمية العالمية الهائلة، التي تعد واحدة من الموجات القليلة التي مر بها العالم على مدى قرن من الزمن.
مع الإشارة إلى أن حالة عدم اليقين هذه، أربكت بالفعل كثيرا من الحكومات، حتى إنها أثرت سلبا في وضعية الأحزاب الحاكمة في الدول ذات الاقتصادات المتقدمة.
وعلى الرغم من رؤية رئيسة صندوق القد الدولي المتشائمة بعض الشيء، إلا أن المؤسسة التي تترأسها تتوقع نسب نمو أفضل للاقتصاد العالمي هذا العام، لماذا؟ لأن المخاطر بشأن حدوث ركود اقتصادي في عدد من الدول بما فيها الولايات المتحدة تتضاءل.
حتى بريطانيا التي سجلت أسوأ أداء اقتصادي بين الدول الصناعية الكبرى، تفادت الشهر الماضي ركودا كان ينظر إليه على أنه حتمي، وإن كان ذلك لا يحصنها من الوقوع فيه في النصف الأول من العام الجاري.
فالضغوط كبيرة على الموازنة العامة، والبلاد تواجه موجة من الإضرابات لم تحدث منذ ثمانينيات القرن الماضي عندما كانت لنقابات العمال قوة هائلة في ميدان العمل وإدارته، قبل أن تدمر رئيسة الوزراء الراحلة مارجريت ثاتشر كثيرا من هذه القوة.
نسب النمو المتوقعة، ولا نقول المأمولة، لا تعود إلى تفادي اقتصادات متقدمة الدخول في ساحة الركود فقط، بل تشمل بالدرجة الأولى الانتعاش المتوقع في الصين، بعد ثلاثة أعوام مريرة مرت بها البلاد بسبب كورونا، في ظل قيود هائلة فرضتها الحكومة لمحاصرة آثار هذا الوباء الذي انفجر في الواقع من البر الصيني.
فقبل أسابيع رفعت السلطات المختصة في البلاد القيود الصحية، وبدأت تشجع عودة الحراك الاقتصادي إلى ما كان عليه قبل الجائحة.
وأسهمت الحكومة في بكين أيضا في تدعيم أوضاع مؤسسات أساسية تعرضت لمشكلات مالية بسبب الوباء عموما.
وتمضي قدما في مواصلة الدعم لبعض الصناعات، وفي مقدمتها أشباه الموصلات التي باتت تمثل أهمية قصوى للأمن القومي سواء في الصين أو الولايات المتحدة.
أي إن المحرك الصيني سيسهم مباشرة في تحسين مسار النمو العالمي هذا العام.
ورغم أن الزيادة المتوقعة للنمو العالمي ليست كبيرة عما كان يتوقع، لكنها في النهاية تمثل محورا مهما في تقليل مساحة الركود دوليا.
ومن المتوقع أن تصل نسبة هذا النمو في العام الجاري، إلى 2.9 في المائة بزيادة تقدر بـ0.2 في المائة.
واللافت، أن الولايات المتحدة التي كانت تقف على حافة الركود من المتوقع أن تسجل نموا بـ1.4 في المائة، بزيادة تصل إلى 0.4 في المائة.
لكن هذا ليس أساسيا بالنسبة إلى النمو العالمي، مثلما هو الأمر مع النمو الصيني المتوقع في العام الجاري عند 5.2 في المائة.
فدائرة صندوق النقد الدولي، تعتقد بأن النمو في الصين سيسهم في ربع النمو العالمي على الأقل.
علما بأن الاقتصاد الصيني سجل العام الماضي أدنى مستوى من النمو على مدى خمسة عقود عند 3 في المائة، وهذا أقل من النسبة المستهدفة لدى بكين التي تصل إلى 5.5 في المائة.
آفاق الاقتصاد العالمي باتت على الأقل في الوقت الراهن أقل تشاؤما.
فحتى الاتحاد الأوروبي أظهر مقاومة قوية لتفادي دخول منطقة اليورو في دائرة الركود هذا العام، بل قد يحقق اقتصاد هذه المنطقة نموا متواضعا لكنه إيجابي في النهاية عند 0.7 في المائة. وهذه أيضا أكثر من التوقعات السابقة بـ0.2 في المائة.
ولعل من أهم المؤشرات الإيجابية هي تلك المتعلقة بالتضخم على الساحة الدولية.
فقد أربك ارتفاع أسعار المستهلكين المشهد الاقتصادي العام، لكنه بدأ يشهد تباطؤا لافتا في الفترة الأخيرة.
صحيح أنه سيتواصل مرتفعا في العام الحالي، إلا أن المؤشرات كلها تدل على أنه سيعود إلى الانخفاض في 2024 ما بين 4.3 و4.7 في المائة، أي إلى مستويات ما قبل 2021.
وبالمحصلة سيكون مسار الاقتصاد العالمي في الأشهر المقبلة في الطريق الذي سيؤدي في النهاية إلى تحقيق نمو مقبول إلى منتصف العقد الحالي على الأقل، في حين سيكون التضخم تحت السيطرة في الفترة المقبلة، لكنه سيبقى أيضا بعيدا عن الحد الأقصى الذي وضعته الحكومات له عند 2 في المائة.
فهذا الهدف يتطلب أعواما أخرى من العمل والنمو، وإزالة الشوائب العالقة بالاقتصاد العالمي ككل ليتم تحقيقه.