انفصال وعودة .. المسألة معقدة
كثر الحديث والجدل خلال الفترة الأخيرة عن قضية انفصال بريطانيا من كتلة الاتحاد الأوروبي بما يسمى قضية "بريكست" بعد استمرار هذا الاتفاق منذ كانون الثاني (يناير ) 1973 أي نحو 43 عاما، ويتزايد حاليا عدد أولئك الذين يعتقدون أن المملكة المتحدة ستعود "حتما" إلى الاتحاد الأوروبي في مرحلة مقبلة ما، بعد مرور ثلاثة أعوام تقريبا على خروجها الرسمي من الكتلة الأوروبية.
لكن الأمر ليس بهذه السهولة، لأن الحكومة البريطانية قامت بانفصالها عن الاتحاد "بريكست" بتنفيذ تفويض شعبي جرى عبر استفتاء تم في 2016.
أي أن المسألة معقدة تتطلب مزيدا من العمل من جانب القوى المناهضة لـ "بريكست"، وانتخابات عامة جديدة وانتظار عملية استكمال اتساع رقعة الذين صوتوا للخروج إلا أنهم ندموا على تصويتهم هذا بعد أن وجدوا أن الوعود بإنفاق محلي أعلى، وبوفرة مالية كبيرة لم تتحقق.
الذي حدث أن أعباء "بريكست"، لا تزال تؤثر في الموازنة العامة، ناهيك عن الاضطرابات اللوجستية في السياحة والتجارة بين بريطانيا والبر الأوروبي، إضافة إلى المملكة الأكبر التي لم تحل، وهي تلك التي تتعلق بطبيعة شكل العلاقة بين أيرلندا الشمالية التابعة للمملكة المتحدة، وبين الاتحاد الأوروبي.
مسألة عودة بريطانيا إلى "الكيان الأوروبي" صعبة لكنها ليست مستحيلة، وتتطلب علاقات طبيعية بين الكتلة والمملكة المتحدة على رأسها حل الموضوع الأيرلندي بأسرع وقت ممكن، وعدم الوصول إلى حالة من الحرب التجارية بين الطرفين اللذين كانا حتى وقت قريب ضمن كيان واحد.
والخوف من هذه الحرب يبقى قائما طالما بقت المشكلة الأيرلندية حاضرة. فقد فشلت حكومة بوريس جونسون البريطانية السابقة في الوصول إلى حلول وسط حولها، في حين لم تفلح حكومة ليز تراس التي أتت بعدها في طرح المسألة أصلا على الساحة، وسط اضطرابات اقتصادية وسياسية عمت بريطانيا خلال فترة وجودها في الحكم التي دامت 44 يوما فقط. أما حكومة ريشي سوناك الحالية، فإنها تحاول أن تتوصل إلى نتائج ما، ليس فقط من أجل مستقبل العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، بل لضمان إنجاز كبير له في الانتخابات العامة المقبلة.
والحق، أن وضعية الاتحاد الأوروبي ليست أفضل كثيرا من وضعية بريطانيا. فهذه الكتلة تواجه حربا هي الأخطر على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية، باستفحال المواجهة الروسية -الأوكرانية، فضلا عن المشكلات على صعيد اضطراب إمدادات الطاقة بفعل الحرب نفسها.
لكن كل هذا لا يعني أن الاتحاد ضعيف، حتى بخروج دولة محورية قوية كبريطانيا منه.
ولذلك يركز المشرعون الأوروبيون على المستقبل بعيدا عن المملكة المتحدة وإمكانية عودتها إلى الاتحاد، عبر تفعيل الشراكات ضمن الكيان الواحد، وربطها بالمصير المشترك أكثر وأكثر. غير أن هذا لا يمنع تصاعد الحديث عن احتمالات عودة بريطانيا إلى الاتحاد في مرحلة ما.
وهذا يتطلب نقطة واحدة محورية مهمة، مرتبطة بعلاقات تجارية طبيعية بين الطرفين، لا تنغص على الأداء العام لدول أوروبا.
بمعنى آخر، ألا تتجاوز بريطانيا القواعد التجارية من منطلق حريتها التجارية التي حصلت عليها بفعل "بريكست".
هذا إلى جانب الحل المطلوب جدا الآن أكثر من أي وقت مضى للمسألة الأيرلندية التي دفعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تعطيل توقيع اتفاق تجاري مع بريطانيا، إلى أن يتم حسم المسألة.
فواشنطن لن تسمح بضرب اتفاق السلام الأيرلندي الذي وقع برعايتها قبل 25 عاما، كما أن الإدارة الأمريكية الحالية، أعلنت صراحة تفضيلها علاقات تجارية مع أوروبا أكثر منها مع المملكة المتحدة.
لكي تعود بريطانيا إلى تكتل الاتحاد الأوروبي، على الطرفين المحافظة على علاقات ودية "رغم الانفصال" للبناء عليها إذا كانت هناك عودة فعلا إلى هذه الكتلة. الابتعاد عن حرب تجارية "أو حتى معارك تجارية" يضمن بقوة العودة المشار إليها، خصوصا مع تبدل قناعات الرأي العام البريطاني بصورة مستمرة حيال مكاسب "بريكست".