التعليم من أجل الابتكار والتعلم المستقل «1 من 3»
هذا العنوان ليس لهذا المقال فقط، بل إنه عنوان لكتاب أجنبي مترجم إلى العربية، وصادر في 2017، عن مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع "موهبة". ونظرا إلى أهمية موضوع الابتكار وإعداد المبتكرين ورعايتهم، بل نظرا أيضا إلى تزايد هذه الأهمية أيضا بسبب البيئة الحية للتنافس المعرفي العالمي، خصوصا لدى أبناء الأمم الطموحة، يحاول هذا المقال، وكذلك مقالا الأسبوعين المقبلين، إلقاء بعض الضوء على معطيات رئيسة مهمة، تم عرضها في هذا الكتاب، ومناقشة مضامينها.
يبحث الكتاب في التفاعل الثلاثي بين العلم والتقنية والابتكار ودور التعليم والتعلم المستقل في هذا التفاعل، ويقدم الكتاب أمثلة في هذا المجال من كل من إنجلترا والبرازيل. فمؤلفا الكتاب ينتميان إلى هذين البلدين ويتمتعان بخبرة عملية في شؤونهما. المؤلف الأول هو "رونالدو موتا Ronaldo Mota"، وكان مسؤولا سابقا في مجال التطوير المهني والابتكار في وزارة العلوم والتقنية البرازيلية، والمؤلف الثاني هو "ديفيد سكوت David Scott"، وكان مديرا سابقا لمركز التعليم والتعلم في جامعة لندن.
يطرح هذا المقال، والمقالان التاليان، ثلاثة معطيات رئيسة قدمها الكتاب. يختص هذا المقال بأول هذه المعطيات، ويشمل بيان مفاهيم التعلم والتعليم والابتكار، وطرح مسألة تطوير التعليم، إلى جانب تطوره السابق عبر العصور. ويركز المقال الثاني على المعطى الثاني الذي يعرض موضوع تطوير التعليم باتجاه الابتكار، ويلقي الضوء على بيئة التعلم، وعلى نموذج عام لإصلاح التعليم، كما يقارن بين خصائص كل من التعليم التقليدي من جهة، والتعليم الابتكاري من جهة أخرى. أما المقال الثالث فيهتم بثالث المعطيات الذي يتضمن توجهات التعليم المطلوبة نحو الابتكار، ويطرح خصائص التعليم المستقل، ثم يعطي مثالين مهمين حول الخبرات السابقة، أحدهما من إنجلترا، والآخر من البرازيل.
إذا بدأنا بمفاهيم التعلم والتعليم والابتكار، نجد أن التعلم يتضمن الاستحواذ على المعرفة أو المهارة عبر الدراسة الذاتية، أو الخبرة، أو عبر التعليم. أي أن التعليم وسيلة للتعلم، لكن إجراءات هذه الوسيلة تختلف وتتطور عبر العصور، ولا تزال على هذا التطور في عصرنا الحاضر، وكذلك في عصور المستقبل أيضا. أما الابتكار فهو إبداع ينبع من العقل البشري، الذي كثيرا ما يتأثر بخيال الإنسان، ومدى قدرته على التفكير. ويتميز الابتكار في أن إبداعه يحمل قيمة، ربما تكون تقنية أو تنظيمية أو تسويقية، أو ربما فنية أو اجتماعية، تستطيع الإسهام في التنمية. وعلى هذا الأساس تبرز الحاجة إلى تطوير التعليم نحو جعل مخرجاته أكثر قدرة على الابتكار وتحقيق التنمية التي يحتاج إليها الجميع أفرادا ومؤسسات ودولا، بل يتنافسون أيضا في السباق على تحقيقها.
ينطلق الكتاب في طرحه لمسألة تطوير التعليم من جملة مأثورة تقول، "لو علمنا طلبة اليوم، كما كنا نعلم طلبة الأمس، فإننا نسلبهم مستقبلهم". ولعل المعنى المقصود من هذا القول هو أن متطلبات العصور تتغير، خصوصا مع التقدم المعرفي المتسارع. وعلى ذلك، لا بد للتعليم من أن يتطور مواكبا لهذا التقدم، لكي يستطيع إعداد الأجيال الجديدة لمتطلبات المستقبل، ويؤهلهم أيضا بالإمكانات المناسبة للتميز فيه. ويطرح الكتاب، في مسألة تطوير التعليم هذه، أربعة متطلبات أولية عامة مأخوذة عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو".
يقضي المتطلب الأول لتطوير التعليم، بالاهتمام "بالموضوعات المحلية الخاصة بالبلد المقصود". ويهتم المتطلب الثاني لتطوير التعليم، بأخذ الموضوعات "البيئية والاجتماعية"، وكذلك "الجوانب السياسية"، في الحسبان. ويركز المتطلب الثالث على "شؤون المستقبل"، ويشمل ذلك الارتقاء بثقافة المواطنة والواجبات المطلوبة من كل فرد من أجل تحقيق مجتمع مستدام، ويشمل هذا المتطلب أيضا التركيز على المعارف والمهارات الحديثة الحية المطلوبة للتعامل مع العصر. ويبرز المتطلب الرابع، إضافة إلى ما تقدم، ضرورة الاهتمام بشؤون البعد الدولي، وقضايا عولمة التعليم.
يطرح الكتاب تطور التعليم عبر الزمن من خلال نظرة تشمل ثلاث ثورات تعليمية رئيسة شهدها العالم. أول هذه الثورات، كما يبين الكتاب، بدأت في بلاد الإغريق، جنوب أوروبا، على البحر الأبيض المتوسط، وذلك في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد. فقد برزت في تلك الفترة أسماء مهمة في تاريخ المعرفة مثل "سقراط وأفلاطون وأرسطو"، وظهرت مدرسة أفلاطون الشهيرة المعروفة بـ"الأكاديمية"، ثم مدرسة أرسطو المعروفة بـ"الليسيوم". أي أن الثورة التعليمية الأولى تميزت بظهور المدارس، واعتمدت بشكل رئيس على طروحات المعلمين من جهة، وعلى تعليم التفكير عبر الحوار وطرح التساؤلات من جهة أخرى. لكن أعداد المتعلمين المنتسبين إلى تلك المدارس كانت محدودة.
انتشرت المدارس حول العالم وتأثرت بالطبع بثقافات الأمم التي انتشرت فيها. ومضى الزمن قرونا وقرونا، حتى ظهرت الثورة التعليمية الثانية في نحو القرن الـ15 للميلاد. ويعد الكتاب أن تميز هذه الثورة لم يكن بانتشار المدارس وظهور الجامعات، لكنه يتجلى بظهور الكتاب وانتشاره، كمصدر جديد للمعرفة يتطلب مؤلفا بعيدا غائبا، وليس مدرسا قريبا حاضرا. هكذا برز التعلم المستقل عبر الكتاب بعيدا عن المدرسة، وظهر التوجه نحو الكتب الوظيفية التي تهتم بموضوعات التقنية والمهارات وتواكب متطلبات سوق العمل. لكن هذا التعلم لم ينتشر بالقدر المأمول، نظرا إلى مشكلة الأمية التي كانت تحتاج إلى مدارس الثورة التعليمية الأولى. وهكذا كانت "كتب" الثورة التعليمية الثانية إضافة تراكمية إلى "مدارس" الأولى، وليس إلغاء لها.
انطلقت الثورة التعليمية الثالثة، طبقا للكتاب، مع مطلع القرن الـ21 الذي نعيش فيه. وإذا كانت "المدرسة" هي رمز الثورة التعليمية الأولى، و"الكتاب" هو رمز الثانية، فقد كان رمز الثالثة هو "التقنية الرقمية". وكما هو الحال فيما سبق، لم تكن هذه الثورة إلغاء لسابقتيها، بل كانت إضافة تراكمية إلى كل منهما. وتتمثل هذه الإضافة باستخدام التقنية الرقمية في كل من النشاطات المدرسية التعليمية، وفي نشر الكتب بنسخ إلكترونية، وربما إضافة فعاليات ذكية خاصة، مع توفير ذلك للجميع حول العالم، وفي جميع الأوقات. وسنتابع في المقالين المقبلين معطيات الكتاب الرئيسة الأخرى... يتبع.