النظام العالمي ومصير العولمة «1 من 2»

يأتي السرد الذي يقوم عليه النظام الاقتصادي العالمي الحالي في خضم تحول مفاجئ في الـحـبكة يغير كل شيء. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان ما يسمى النظام الدولي الليبرالي مرتكزا على التدفق الحر للسلع ورأس المال والتمويل، لكن هذا الترتيب يبدو على نحو متزايد الآن خارج موضعه الصحيح في التاريخ.
الواقع أن كل نظام قائم على السوق مدعوم بسرد أو آخر ـ قصص نرويها لأنفسنا حول الكيفية التي يعمل بها النظام. يصدق هذا بشكل خاص على الاقتصاد العالمي، لأن العالـم، على النقيض من أي بلد منفرد، لا تديره حكومة مركزية تعمل كصانع للقواعد ومنفذ لها. في مجموعها، تساعد هذه الروايات على إنشاء وصيانة المعايير التي تحافظ على استمرارية عمل النظام بطريقة منتظمة، على النحو الذي يـنبئ الحكومات بما ينبغي لها أن تفعل أو لا تفعل. تعمل هذه المعايير بعد استيعابها على دعم الأسواق العالمية بطرق تعجز القوانين الدولية والمعاهدات التجارية والمؤسسات الدولية عن الإتيان بها.
تحولت الروايات العالمية مرات عديدة على مدار التاريخ. في ظل معيار الذهب في أواخر القرن الـ19، كان الاعتقاد السائد أن الاقتصاد العالمي نظام ذاتي التكيف ذاتي التوازن حيث يتحقق الاستقرار على أفضل وجه عندما تمتنع الحكومات عن التدخل. ذهب هذا الـفـكر إلى أن حركة رأس المال الحرة، والتجارة الحرة، وسياسات الاقتصاد الكلي السليمة، كفيلة بتحقيق أفضل النتائج للاقتصاد العالمي والدول فرادى على حد سواء.
خـلـف انهيار معيار الذهب، إلى جانب الكساد العظيم، تأثيرا ضخما في سرد الأسواق الحميدة. فقد أعطى نظام بريتون وودز، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية واعتمد على إدارة الاقتصاد الكلي على طريقة جون ماينارد كينز لتثبيت استقرار الاقتصاد العالمي، الدولة دورا أكثر بروزا. فالدولة القوية فقط هي القادرة على توفير الضمان الاجتماعي ودعم أولئك الذين سقطوا عبر شقوق اقتصاد السوق.
عمل نظام بريتون وودز أيضا على تغيير العلاقة بين المصالح المحلية والعالمية. كان الاقتصاد العالمي، المبني على نموذج من التكامل الضحل، خاضعا لأهداف ضمان التشغيل الكامل للعمالة المحلية وإقامة مجتمعات عادلة. وبفضل ضوابط رأس المال ونظام التجارة الدولية المتساهل، تمكنت الدول من إنشاء مؤسسات اجتماعية واقتصادية تناسب تفضيلاتها واحتياجاتها الفردية.
كان سرد العولمة المفرطة النيوليبرالي الذي أصبح مهيمنا في تسعينيات القرن الـ20، بما يحمله من تفضيل للتكامل الاقتصادي العميق والتدفق الحر للتمويل، عودة إلى سرد معيار الذهب للأسواق الحميدة ذاتية التعديل والتكيف. لكنه أقر رغم ذلك الدور الحاسم الذي تضطلع به الحكومات، فرض القواعد المحددة التي جعلت العالم مكانا آمنا للشركات الضخمة والبنوك الكبرى.
كان المفترض أن تمتد فوائد الأسواق الحرة إلى ما هو أبعد من الاقتصاد. تصور النيوليبراليون أن المكاسب الاقتصادية المتحققة من العولمة المفرطة من شأنها أن تساعد على إنهاء الصراع الدولي وتعزيز القوى الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم، خاصة في الدول الشيوعية مثل الصين.
لم يـنـكـر سرد العولمة المفرطة أهمية العدالة الاجتماعية، وحماية البيئة، والأمن الوطني، ولم ينازع مسؤولية الحكومات عن ملاحقة هذه الأهداف، لكنه افترض أن هذه الأهداف يمكن تحقيقها من خلال أدوات السياسة التي لا تتعارض مع التجارة الحرة والتمويل الحر. ببساطة، سيكون بوسع المرء أن يحصل على فطيرته ويتناولها. وإذا جاءت النتائج مخيبة للآمال، كما تبين لاحقا، فلن يقع اللوم على العولمة المفرطة، بل على غياب السياسات التكميلية والداعمة في مجالات أخرى... يتبع.
خاص بـ «الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2023.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي