السكك الحديدية عالية السرعة .. فلسفة صينية لدمج المدن اقتصاديا وتنظيم هيكل السوق

السكك الحديدية عالية السرعة .. فلسفة صينية لدمج المدن اقتصاديا وتنظيم هيكل السوق

منذ 2008 وحتى الآن قامت الصين بتشغيل أكثر من 40 ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية عالية السرعة.
ولمعرفة مدى ضخامة هذا الرقم يكفي أن نقول إنه أكبر بكثير من إجمالي خطوط السكك الحديدية عالية السرعة العاملة في بقية دول الكرة الأرضية جميعا، ولمعرفة إلى أي مدى يمثل ذلك إنجازا كبيرا، يكفي القول إن الصين وفي بداية هذا القرن لم يكن لديها أي خطوط سكك حديدية عالية السرعة على الإطلاق، إذ كانت جميع القطارات بطيئة غير مريحة بمتوسط سرعة منخفض.
أما اليوم ولم ينقض ربع هذا القرن بعد، فإن الدولة الأكثر اكتظاظا بالسكان لديها الآن أكبر شبكة للسكك الحديدية عالية السرعة في العالم، بل تخطط لمضاعفة طول شبكتها من هذا النوع من القطارات الحديثة لتبلغ 70 ألف كيلومتر بحلول عام 2035.
من المؤكد أن تلك الشبكة من خطوط السكك الحديدية عالية السرعة تتجاوز أهميتها نقل المواطنين بين المدن الصينية، رغم أهمية هذا العامل في اتخاذ قرار الاستثمار في هذا القطاع تحديدا، فالآثار تتجاوز ذلك بكثير، وتمتد لتشمل تعزيز التنمية الحضرية في المدن، واستيعاب الزيادات المتسرعة في اعداد السائحين، وتعزيز النمو الاقتصادي الإقليمي، بل مكافحة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري أيضا.
في بلد شاسع المساحة كالصين تنافس خدمة السكك الحديدية عالية السرعة كل من النقل البري والجوي خاصة في المسافات الطويلة، وربما يعزز انخفاض تكلفة تشييد السكك الحديدية في الصين مقارنة بالدول الأخرى التوجهات الحكومية لتوسيع شبكة القطارات الحديثة في البلاد، إذ إن تكلفة الكيلومتر الواحد تراوح ما بين 17 - 21 مليون دولار، أي نحو ثلثي التكلفة في الدول الأخرى.
ولزيادة الإقبال الجماهيري على استخدام السكك الحديدية، فإن أسعار تذاكر السفر بالقطار في الصين تعد تنافسية مع الحافلات وشركات الطيران، كما أنها تمثل ربع نظيرتها في الدول الأخرى، وقد أدى انخفاض أسعار تذاكر السفر بالقطار إلى أن يجذب أكثر من 1.7 مليار مسافر سنويا من جميع فئات الدخل.
إلا أن الدكتور فينلي لوقا أستاذ اقتصادات المواصلات في جامعة أكسفورد، يرى أن التوجهات الصينية في مجال التوسع في شبكة السكك الحديدية عالية السرعة تعود إلى مجموعة من الأسباب من ابرزها معدل العائد الاستثماري في شبكة القطارات الصينية بلغ ابتداء من 2015 نحو 8 في المائة.
وأضاف في حديثه لـ"الاقتصادية" أنه "وفقا لدراسات البنك الدولي هو أعلى بكثير من تكلفة الفرصة البديلة لرأس المال في الصين ومعظم الدول الأخرى للاستثمارات الرئيسة طويلة الأجل في البنية التحتية، كما أن شبكة القطارات الحديثة لن تقف مزاياها عند تقصير أوقات السفر وتحسين السلامة وتسهيل تنقل العمالة والسياحة، وإنما أيضا القطارات عالية السرعة تعمل على تقليل تكاليف التشغيل في الإنتاج الاقتصادي وتقلص معدلات الحوادث وتخفض ازدحام الطرق السريعة وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري".
وفي الواقع فإن شبكة السكك الحديدية الصينية تعد كقطارات شينكانسن اليابانية في الستينيات رمزا للقوة الاقتصادية للبلاد وللتحديث السريع والبراعة التكنولوجية والازدهار المتزايد ووسيلة للاندماج الثقافي والاجتماعي، والأهم دمج السوق الوطنية الواسعة بما يخدم السياسة التنموية للبلاد والقائمة على التحول من النمو القائم على التصدير إلى النمو القائم على الاستهلاك الداخلي.
ومن البديهيات الأساسية في علم الاقتصاد أن تطوير وسائل النقل يعزز من الإنتاجية الاقتصادية والنمو الاقتصادي، وبالفعل فقد جلبت القطارات عالية السرعة تأثيرات إيجابية في هيكل السوق في الصين، واثرت بشكل مفيد في التجمعات العمالية وعززت من الابتكارات التكنولوجية في المدن والبلدات التي تمرها بها القطارات، ما أحدث من وجهة نظر كثير من الخبراء تغيرا جذريا في الاقتصاد الإقليمي للصين وفي الإنتاجية وأنماط الحياة، وذلك كنتيجة طبيعية لتحسين الاتصال بين المناطق بشكل كبير وتعزيز الارتباط الاقتصادي بين الأسواق المحلية المختلفة.
شبكة القطارات الحديثة في الصين أدت إلى تقصير وقت السفر وتحسين كفاءة السفر، وزيادة التواصل الاقتصادي بين العاملين في المدن المختلفة بما يحسن من التكامل التجاري الإقليمي ويحسن مستوى الدخل القومي، بل إن بعض الخبراء يشيرون إلى أن الانتعاش الذي شهدته الصين في سوق العقارات الذي يسهم بنحو 25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي يعود في جزء كبير منه إلى التوسع في شبكة السكك الحديدية التي سمحت بالإقامة في مدن بعيدة نسبيا عن أماكن العمل مع توفر قطارات قادرة على نقل المواطنين خلال فترات زمنية مقبولة بشكل كبير.
في هذا السياق، قال لـ"الاقتصادية" هاريسون وليم المحاضر في الاقتصاد الآسيوي في جامعة لندن، إن "توسع الصين في شبكة السكك الحديدية منذ بداية القرن الحالي أدى إلى زيادة في أسعار أراضي المدن التي تمر بها القطارات بنسبة 7 في المائة مقارنة بالمدن التي لا يمر فيها القطار، وتشير بعض الدراسات إلى أن في المرحلة المقبلة ستؤدي كل محطة سكة حديد عالية السرعة إضافية إلى زيادة أسعار الأراضي في المدن بمقدار 13 في المائة، كما زادت أسعار العقارات في المدن التي يوجد بها قطارات عالية السرعة بما لا يقل عن 14 في المائة".
واستدرك قائلا "لكن التأثير العام للقطارات الحديثة في الاقتصاد الصيني أكبر من ذلك، إذ تعيد على الأمد الطويل تنظيم الهيكل الاقتصادي الصيني وفقا لقوانين العرض والطلب من خلال إتاحة فرصة أكبر لقوى الإنتاج سواء الأيدي العاملة أو المواد الخام إلى الانتقال من مكان إلى آخر بطريقة أسهل وأسرع وأقل تكلفة، وهذا يؤدي إلى خفض تكاليف الإنتاج وتقليص حجم الفاقد".
ويواصل قائلا "لكن الاعتقاد أن التنمية الاقتصادية مرهونة فقط بشبكة جيدة وحديثة من السكك الحديدية سيكون مبالغ فيه، إذ يمكن أن يؤدي التركيز فقط على التوسع المستمر في شبكة السكك الحديدية إلى مزيد من الاستقطاب الاقتصادي لمصلحة المدن التي تمر بها القطارات وفي الأغلب ستكون مدنا مركزية على حساب المدن الطرفية التي لا يمر بها قطارات".
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن فلسفة الصين في توسيع شبكتها من السكك الحديدية المتطورة، والعمل الدؤوب على تطوير صناعة وتكنولوجيا السكك الحديدية لديها، لتصبح مركزا عالميا لتلك الصناعة لا يرتبط فقط بالسوق الوطني، وإنما الأهم ربط الاقتصادات المجاورة، بل الاقتصاد الأوروبي إذا أمكن باقتصادها.
ومع ازدهار شبكة السكك الحديدية الصينية، تتجه كثير من الدول المجاورة إلى التخلي عن الشاحنات كوسيلة لنقل السلع بين البلدين لمصلحة السكك الحديدية التي باتت أسرع وأكبر، إذ افتتحت منغوليا في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي خطا جديدا للسكك الحديدية إلى الصين، الذي سيعزز العلاقات الاقتصادية بين البلدين، حيث إن 90 في المائة من صادرات منغوليا تأتي من الصين، وقد تم تهديد شريان الحياة هذا نتيجة سياسة الصين المتشددة في مواجهة فيروس كورونا، ونتج عن ذلك انخفاض عدد الشاحنات التي تنقل السلع بين البلدين لخشية الصين من أن ينقل السائقون الفيروس.
أما لاوس، فقد افتتحت في 2021 خط سكك حديد بنته الصين بقيمة ستة مليارات دولار يمتد من قرب الحدود المشتركة للبلدين إلى العاصمة، وذلك في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية، وسيسهم هذا المشروع في خفض تكاليف الشحن وتعزيز الصادرات بين البلدين، كما أن باكستان اعتمدت على الصين لبناء خط سكك حديدية يربط مدينة كراتشي الساحلية بكل من العاصمة إسلام أباد ولاهور.
من جانبه، ذكر لـ"الاقتصادية" توماس ليجون الباحث في الاقتصاد الصيني، "قبل أن تشهد العلاقات الأوروبية - الصينية الاحتقان الذي تشهده حاليا، وفي 2015 اصطحب رئيس الوزراء الصيني حينها 16 من القادة الأوروبيين في رحلة بالقطار فائق السرعة، كانت الرحلة استعراضا صينيا للقدرات التكنولوجية التي تمتلكها بلاده في مجال السكك الحديدية، كانت أيضا مدخلا من قبل رئيس الوزراء الصيني لإقناع القادة الأوروبيين بأن السكك الحديدية ستلعب دورا محوريا في تعزيز التبادل التجاري بين ثاني أكبر اقتصاد في العالم والقارة الأوروبية، لهذا عندما وصلت سرعة القطار الذي يقل رئيس الوزراء الصيني والقادة الأوروبيين إلى 300 كيلومتر في الساعة، قال رئيس الوزراء لضيوفه كما نشرت الصحف العالمية حينها إن بكين مستعدة لمشاركة تكنولوجيا السكك الحديدية الخاصة بها، لأن العلاقات بين الصين وأوروبا مثل هذا القطار ليست سريعة في حركتها وحسب، لكن مريحة وآمنة أيضا".
واهتمام الصين ببناء شبكة داخلية ضخمة ومتطورة من السكك الحديدية، أمر يتجاوز الشأن الداخلي إذ يجعلها مركزا عالميا لتلك الصناعة، وحاليا تتوق أي دولة لتطوير بنيتها التحتية من السكك الحديدية للاستفادة من الخبرات الصينية في هذا المجال، إذ إنها قادرة على بناء سكك حديدية عالية السرعة بتكلفة أقل من منافسيها، ويمكنها ذلك من اكتساب مزيد من الأصدقاء وفتح الأسواق في عديد من الدول.

الأكثر قراءة