ثمرات العقول .. جذور المكتبات عبر التاريخ

ثمرات العقول .. جذور المكتبات عبر التاريخ
المخطوطات العربية في المملكة الإسبانية كانت تشد إليها الرحال.
ثمرات العقول .. جذور المكتبات عبر التاريخ

احتفل العالم في العاشر من آذار (مارس) الجاري باليوم العالمي للمكتبات، كانت المناسبة - بالنسبة إلى جمهور المحتفيين - فرصة لاستحضار أحوال المكتبات في زمن سطوة الرقمي وصولة التكنولوجيا، بما تقدمه من إثارة وإغراء، لدرجة الإغواء أحيانا، تدفع نحو مفارقة بواطن الورق المزينة بالحبر نحو عوالم الشاشات المسطحة، حيث السيادة للصورة والصوت بدل الحرف والكلمة.
لا ينكر أحد أن موجات الثورة الرقمية المتعاقبة، بصيحاتها المتنوعة قد هزت أركان المكتبات في العالم. كانت هذه الحقيقة سندا، اعتمده المنبهرون بالتنقية، للجزم قطعا بأفول نجم المكتبات، فإنسان العصر الرقمي، بحسب هؤلاء، لم يعد بحاجة إلى تجشم عناء التنقل والتزاحم في الصفوف قصد التردد على هذه الأماكن، ما دامت ذخائرها وكنوزها وأشياء أخرى متاحة بين يديه، بضغطة زر على الهاتف أو الحاسوب أو اللوح الإلكتروني، أينما حل وارتحل في العالم.
رأي ينم عن جهل أصحابه بجذور المكتبات عبر التاريخ، ودورها في تطور الفكر الإنساني على مدار الحقب والعصور. فهذه المنارات الشامخة، كانت الشاهد على فصول هذا التطور، بعد اختراع الكتابة الذي عد بمنزلة الولادة الثانية للإنسان، ونقصد هنا الولادة الفكرية لا المادية. وحفظت داخل هذه الأماكن، بمختلف الوسائل "العظام، والطين، الشمع، الخشب، البردي، الجلد، الورق..." ثمرات العقول البشرية، في شكل كلمات ونصوص مكتوبة، بغية تسهيل الرجوع إليها عند الضرورة.
تضاربت الروايات حول أول ظهور للمكتبة في التاريخ، مع ترجيح ارتباطها بالشرق القديم، بسبب الحضارات القديمة التي نشأت هناك، فضلا عن ورود كلمة "دور الكتب" في عديد من النصوص القديمة. طرح تعززه حفريات تفيد اكتشاف مكتبات الطين، أساسها ألواح من الصلصال، في بلاد الرافدين، ومكتبات البردي لدى حضارات مصر القديمة. وعثر أواسط القرن الـ20 على مكتبة، في كهف قرب البحر الميت، تضم مئات المخطوطات من جلود الحيوانات، اشتهرت بصحائف البحر الميت. وتبقى مكتبة نيبور في منطقة الفرات الأوسط، محافظة القادسية حاليا، أعرق مكتبة من هذا الصنف، باحتوائها على زهاء 30 ألف وثيقة إدارية وفنية، منقوشة على ألواح من الطين.
ارتبطت المكتبة بشكلها الحديث بالحضارة اليونانية، فكلمة "مكتبة" في اللغات الأوروبية تشير إلى اليونان كموطنها الأصلي، وانتعشت مع بداية القرن الرابع قبل الميلاد فكرة تكوين العلماء والأدباء لمكتبات خاصهم بهم. وكان ذلك انعكاسا لازدهار النقاش الفكري والفلسفي، ولا سيما مع الفيلسوفين الكبيرين أفلاطون وأرسطو وباقي التيارات الفلسفية "السفسطائية، الأبيقورية، الرواقية...".
كانت المكتبات من غنائم الرومان في حروبهم ضد اليونان، فدخلت إلى البلاد أواسط القرن الثاني قبل الميلاد، وذلك على يد القنصل الروماني لوسيس أميليوس باولوس الذي تولى نقل ما يقع عليه من كتب إلى بلاده. وما كاد القرن الأول قبل الميلاد يقترب من نهايته حتى انتشر حب الكتب بين الأرستقراطيين الرومان، حتى قيل إن الفيلسوف شيشرون عد ما لديه من كتب "ذرة بيته"، وكتب رفيقه ماركوس فارو رسالة بعنوان "عن المكتبات". عناية واهتمام قابلهما الكاتب سنيكا بسخرية لاذعة، حيث قال، "أصبحت المكتبة اليوم ضرورة يزين بها البيت، كما تزود الحمامات بالمياه الباردة والساخنة".
أسهمت الديانة المسيحية في انتشار المكتبات، في الأقطار وبين الشعوب الأوروبية، لاقترانها بالكنائس والأديرة، فالمكتبات الدينية كانت محطة مهمة في رحلة التطورية، وهذا ما كشفته عبارة وردت في نهاية فهرس مكتبة دير يرجع إلى القرن التاسع الميلادي جاء فيها، "هذه إذن ذخائر الدير، هي الثروة التي تغذي الروح بحلاوة الحياة". ظهر هذا الإكبار لاقتناء الكتب فيما أورده أحد المؤرخين عند وصف حريق إحدى المكتبات حين قال، "لقد فني عدد لا يحصى من الكتب فتركنا وقد سلمنا أسلحتنا الروحية"، هذا وعد آخر أن "الدير دون خزانة كتب مثل القلعة بلا سلاح".
تكرر الأمر مع الإسلام، فقد كانت المكتبات الدينية مرافقة لانتشار المساجد في الربوع والأمصار، قبل أن تصبح العناية بالمكتبات توجها سياسيا لدى الخلفاء والسلاطين في العصر العباسي، وإن كانت هوامش التاريخ تفيد بأن الأمير خالد بن يزيد، حفيد الخليفة الأول معاوية بن أبي سفيان، صاحب السبق في إنشاء أول مكتبة في التاريخ الإسلامي. ثم ما لبث الأمر أن بلغ ذروته مع ازدهار العلوم والآداب وانتشار التأليف والترجمة، خاصة زمن الخليفة العباسي الخامس، هارون الرشيد، ومن بعده ابنه عبدالله المأمون صاحب الفضل في ترجمة الكتب اليونانية والشرقية إلى اللغة العربية.
في الأندلس كذلك ترك العرب صروحا معرفية، بذخائر وجواهر لا تزال مشعة إلى اليوم، فالمخطوطات العربية في المملكة الإسبانية تشد إليها الرحال من أقاصي الأرض. وكان الخليفة الأموي الثالث، الحكم المستنصر بالله قائد هذه النهضة العلمية التي جمع في مكتبته الضخمة في قصر الزهراء في مدينة قرطبة ما يزيد على 400 ألف مجلد. يورد ابن خلدون عنه أنه "بعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني، وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق".
حديثا، تبقى مكتبة الكونجرس الأمريكي التي أنشئت بمرسوم للرئيس جون آدامز، في 1800، "المكتبة الأكبر والأكثر تكلفة وأمانا في العالم" كما نقش على قبة أحد مبانيها، باحتوائها على 130 مليون مادة، منها 29 مليون كتاب وأكثر من 58 مليون وثيقة بأزيد من 460 لغة، تنتظم في رفوف يبلغ طولها 856 كيلو مترا. جمع هذا الإرث الإنساني الضخم بعد واقعة الإحراق، من جانب البريطانيين، خلال إطلاقهم النار في 1814 على العاصمة واشنطن، ما حدا بالرئيس توماس جيفرسون إلى التبرع بمكتبته التي تحتوي على 6487 كتابا لتعويض الخسائر، خطوة قابلها الكونجرس بقرار تعويض الرئيس عنها بمبلغ 23950 دولارا.
علاقة بفقد ثمرات العقول تحدثت المستشرقة زيجريد هونجه في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" بأن النصيب الأكبر من ضياع المكتبات يبقي من نصيب العرب، ففي القاهرة مثلا أحرقت مكتبة "دار العلم" التي تقدر مقتنياتها بـ 2،2 ميلون مجلد، وفي الأندلس فقد العرب ما يزيد على مليون كتاب.. وهلم جرا في قائمة طويلة من اللآلئ المشعة والدرر الضائعة، على مر التاريخ، بسبب المعارك والاقتتال والاحتراب... حتى ما سلم بوصوله إليها بات بدوره مهددا بالضياع جراء الهجران والانقطاع والجفاء.
هكذا تدول الأيام، فبعدما أثبت صدر البيت الأول من شعر أبي الطيب المتنبي تتجه لإثبات عجز البيت، فكما أن سرج سابح لم يعد أعز مكان في الدنى، يبدو أن الكتب بدورها تفقد صفة خير جليس في الزمان.

سمات

الأكثر قراءة