العقارات هل تعيد الأزمة؟
بعد تقارير غير مشجعة من صندوق النقد الدولي بشأن آفاق النمو في العام الحالي الذي من المتوقع أن يشهد تباطؤا، في ظل اشتداد دوائر الحرب في أوكرانيا، واستمرار البنوك المركزية في رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، فإن هذه الأحداث المتزامنة قد أخذت وقتا أطول مما هو متوقع، ولا تزال الآفاق غير واضحة وقاتمة تماما بشأنها، فلا الحرب تبدو قريبة الحسم لأي طرف ولا هناك اتجاهات معلنة للسلام، كما أن البنوك المركزية لم تحدد حتى الآن السقف المستهدف للفائدة رغم أنها تؤكد استهداف نسبة 2 في المائة من التضخم التي تبدو بعيدة حتى الآن، مع بلوغ التضخم مستويات 8 في المائة وتحقيق تراجع بسيط يجعل هدف 2 في المائة بعيدا على الأقل خلال هذا العام.
ومع تأمل هذه الصورة الاقتصادية والمشهد المعقد فإن قدرة كثير من القطاعات على الصمود قد تضمحل مع مرور الوقت، وتبدأ الأزمات تأخذ شكل الموجات المتتابعة، وقد شهدنا منذ بداية العام موجة إفلاس البنوك الأمريكية بدءا ببنك "إس في بي" ثم المشكلات المالية في البنوك الأوروبية مع إنقاذ بنك "كريدي سويس"، وفي هذا الاتجاه من الأزمات المتوقعة نشرت "الاقتصادية" تقريرا أخيرا يشير إلى ما قد يواجه القطاع المالي مع تزايد مخاطر تعثر المقترضين في سداد ديونهم نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة، وأن نحو ربع أرباح البنوك الأوروبية قد تتبدد إذا انخفضت قيمة قروضها العقارية التجارية 5 في المائة، كما أن بنوك شمال أوروبا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا هي الأشد عرضة لهذه المخاطر، حيث إن إجمالي القروض العقارية المعرضة لخطر تراجع قيمتها لدى أكبر 20 بنكا أوروبيا يبلغ نحو 550 مليار يورو، ولا شك أن هذا الرقم مرعب ومخيف في ظل هذه الأوضاع ويضع العالم على حافة الأزمة المالية التي جاءت نتيجة أوضاع مثل هذه في 2008، وإذا كانت الحلول في ذلك الوقت قد جاءت بحزم إنقاذ كبيرة مع خفض أسعار الفائدة إلى مستويات متدنية، فإن العودة إلى تلك الأوضاع أو حتى محاولة تجنبها يعني هزيمة البنوك المركزية في حرب التضخم، وانتصار دعاة خفض الفائدة، وهذا قد يقود إلى موجات تضخم جديدة وفقاعات أصول في كل مكان.
ورغم اعتماد البرلمان الأوروبي سابقا قواعد وتشريعات جديدة للحد من القروض العقارية الخطرة، لحماية المقترضين مستقبلا بشكل جزئي من تقلبات الأسواق التي تزيد من أقساط التسديد وبشكل أفضل في حال فشلهم في تسديد قروضهم. إلا أن هذه القواعد ليست كافية في ظل الأوضاع التي تعيشها القارة البيضاء من مشكلات في تراجع النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم، حيث سجلت منطقة اليورو أرقاما قياسية واستمرار ارتفاع أسعار الفائدة لدى البنوك المركزية وهذا الوضع بكل تأكيد يؤثر سلبا في حركة مؤشرات أرباح البنوك. في ظل استمرار الأزمة المالية والاقتصادية التي تهدد عديدا من الدول الأوروبية.
وعلى هذا الصعيد يشير تقرير نشره صندوق النقد الدولي حديثا إلى أن مؤشر النمو في القروض العقارية وأسعار العقارات منذ الأزمة المالية العالمية، انخفض إلى -4 في المائة مع الأزمة المالية، قبل أن يستعيد عافيته منذ 2011، ليشهد تذبذبا حتى 2020 مع انتشار الجائحة التي تسببت في إغلاق عديد من المكاتب التجارية وفرضت قواعد العمل عن بعد، وهو الأمر الذي قاد إلى تراجع النمو في العقارات التجارية والتجزئة إلى -1 و- 3 في المائة بينما حافظت العقارات الصناعية والسكنية على نمو مقبول، ورغم أن قطاعي العقارات التجارية والتجزئة لم تتمكن من الإفلات من النمو السلبي، إلا أن جميع القطاعات قد بدأت التراجع منذ بدء البنوك المركزي رفع أسعار الفائدة، وهذه الضغوط المتراكمة منذ الأزمة المالية تأخذ القطاع العقاري اليوم إلى مخاطر تعثر جديدة، لكن مع صعوبة بالغة لاتخاذ قرارات إنقاذ سيادية كما حدث في 2008، أو ما تم من دعم خلال الجائحة.
ونلاحظ أن العقارات التجارية بشكل خاص هي الأشد عرضة للخطر نظرا إلى عدد من القضايا أهمها أن رفع أسعار الفائدة سيكون له تأثير مباشر في أسعار العقارات التجارية من خلال زيادة تكلفة تمويل الصفقات الجديدة، أو إعادة تمويل القروض الحالية على المستثمرين، وبالتالي خفض الاستثمار في هذا القطاع، كما يمكن أن يكون لسعر الفائدة تأثير غير مباشر في القطاع من خلال إبطاء النشاط الاقتصادي، وبالتالي تقليل الطلب على العقارات التجارية مثل المحال التجارية والمطاعم والمباني الصناعية، وإذا أضفت لذلك أن تجربة الجائحة منحت فرصا واعدة لأنظمة العمل من المنزل، ما يسهم في مزيد من الضغوط التي بدأت في البروز بتراجع الطلب على العقارات الأقدم والموجودة في مواقع سيئة كما عقارات شمال أوروبا التي تضع نفسها في مقدمة عملية تصحيح الأسعار، نظرا إلى أن أصحاب العقارات كانوا يستخدمون قروضا قصيرة الأجل نسبيا.
مع هذه الصورة المقلقة والمزعجة حقا التي قد تعيد شبح الأزمة المالية من جديد مع ظهور صعوبات جمة أخرى، فإن من النتائج التي تتضح لنا أن الظروف الاقتصادية الراهنة غير مواتية لاتخاذ قرارات الإنقاذ السابقة نفسها كما أشرنا، فإن الاضطرابات في سوق العقارات التجارية يمكن أن تؤدي بدورها إلى تهديد الاستقرار المالي ولذلك لا بد من مراقبة مستمرة للتخفيف من هذه المخاطر ولضمان مرونة القطاع المصرفي، وينادي صندوق النقد الدولي في تقريره إلى ضرورة مراجعة افتراضات تقييم العقارات التجارية للبنوك للتأكد من أن المخصصات كافية، وفي المناطق التي تلعب فيها المؤسسات المالية غير المصرفية دورا في تمويل العقارات التجارية، يجب توسيع نطاق السياسة الاحترازية الكلية لتغطية هذه المؤسسات للتخفيف من المخاطر على مؤشرات النتائج والأرباح، ولتجنب التعثر أيضا.