حلقة الهلاك وديون الركود التضخمي «2 من 2»
باختصار، بعد أن كانت حساسية أسعار الفائدة للودائع غير عاملة طوال الأعوام الـ15 الأخيرة -منذ انخفضت أسعار الفائدة قصيرة الأجل إلى ما يقرب من الصفر في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2008- عادت الآن إلى الصدارة. تحملت البنوك مخاطر المدة التي كانت متوقعة بدرجة كبيرة لأنها كانت تريد تضخيم هوامش صافي القيمة لديها. واستغلت حقيقة مفادها أنه في حين كانت الرسوم الرأسمالية على السندات الحكومية والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري تساوي صفرا، فإن الخسائر على هذه الأصول لم يكن من الضروري تحديدها تبعا للسوق. لزيادة الطين بلة، لم تخضع الهيئات التنظيمية البنوك لاختبارات الإجهاد لترى كيف قد تؤدي في سيناريو الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة.
الآن وقد انهار ذلك البيت الذي بني من ورق، ستؤدي الضائقة الائتمانية الناجمة عن الإجهاد المصرفي اليوم إلى هبوط الاقتصاد الحقيقي بدرجة أكبر من الحدة، بسبب الدور الرئيس الذي تطلع به البنوك الإقليمية في تمويل الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم والأسر. وعلى هذا فإن ما تواجهه البنوك المركزية الآن ليس معضلة فحسب، بل هي معضلة ثلاثية. فبسبب صدمات العرض الكلي السلبية الأخيرة -مثل الجائحة والحرب الدائرة في أوكرانيا- كان من المحتم أن تفضي محاولات تحقيق استقرار الأسعار من خلال رفع أسعار الفائدة إلى زيادة مخاطر الهبوط الحاد "الركود وارتفاع معدلات البطالة". لكن، كما كنت أزعم لأكثر من عام كامل، فإن هذه المقايضة المزعجة تنطوي أيضا على مخاطر إضافية تتمثل في عدم الاستقرار المالي الشديد.
يواجه المقترضون ارتفاع أسعار الفائدة -وبالتالي ارتفاع تكاليف رأس المال- على الاقتراض الجديد وعلى المطلوبات التي باتت مستحقة ويجب ترحيلها. لكن الزيادة في أسعار الفائدة طويلة الأجل يؤدي أيضا إلى خسائر فادحة يتكبدها الدائنون الذين يحتفظون بأصول طويلة الأجل. نتيجة لهذا، ينزلق الاقتصاد إلى "فخ الديون"، حيث يتسبب ارتفاع العجز العام ومستويات الديون في إيجاد نوع من "الهيمنة الضريبية" على السياسة النقدية، وتتسبب الديون الخاصة المرتفعة في إيجاد نوع من "الهيمنة المالية" على السلطات النقدية والتنظيمية.
كما حذرت لفترة طويلة، من المرجح أن تتراجع البنوك المركزية التي تواجه هذه المعضلة الثلاثية "عن طريق الحد من تطبيع السياسة النقدية" لتجنب الانهيار الاقتصادي والمالي المعزز ذاتيا، وستكون الساحة مهيأة لإزالة تثبيت توقعات التضخم بمرور الوقت. يتعين على البنوك المركزية أن تمتنع عن خداع نفسها بتصور مفاده أنها لا تزال قادرة على تحقيق استقرار الأسعار والاستقرار المالي في الوقت ذاته من خلال مبدأ الفصل على نحو أو آخر "زيادة أسعار الفائدة لمقاومة التضخم وفي الوقت ذاته استخدام دعم السيولة أيضا للحفاظ على الاستقرار المالي". في فخ الديون، ستغذي أسعار الفائدة الأعلى أزمات ديون جهازية شاملة لن يكون دعم السيولة كافيا لحلها.
لا يجوز للبنوك المركزية أيضا أن تفترض أن الضائقة الائتمانية المقبلة ستقتل التضخم عن طريق كبح جماح الطلب الكلي. ذلك أن صدمات العرض الكلي السلبية لا تزال مستمرة، وتظل أسواق العمل محكمة بدرجة أكبر مما ينبغي. الواقع أن الركود الحاد هو الشيء الوحيد الذي قد يخفف من تضخم الأسعار والأجور، لكنه سيجعل أزمة الديون أشد حدة، وهذا بدوره سيغذي دورة تباطؤ اقتصادي أشد عمقا. ولأن دعم السيولة من غير الممكن أن يمنع حلقة الهلاك الجهازية هذه، يتعين على الجميع أن يكونوا مستعدين لاستقبال أزمة ديون الركود التضخمي المقبلة.
خاص بـ«الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2023.