الذكاء الاصطناعي والتفكير الاسترجاعي
شهدت هذه الصفحة على مدى أعوام مقالات في الذكاء الاصطناعي، ومقالات ذكر فيها هذا الذكاء في إطار موضوعات حول العالم السيبراني. وجاء ذلك نتيجة للأهمية المتزايدة لهذا الذكاء في التأثير في مستقبل العالم اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. وتحدث المقالان الأخيران، اللذان طرحا الموضوع، عن مسألتين أساسيتين. فقد ناقش المقال السابق المنشور في 30 آذار (مارس) 2023 مسألة العمل على تفعيل ذكاء الناشئة في مواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي، وتحدث المقال الذي سبقه حول هذا الذكاء، والمنشور في التاسع من شباط (فبراير) 2023 عن المنتج الذكي ChatGPT، الذي عبرنا عنه "بالمتحدث المدرب"، الذي أدهش كثيرين بما لديه من إمكانات، وتطرق المقال أيضا إلى الاستثمار الكبير في تطوير هذا المنتج، وفي تطوير منتجات ذكية أخرى.
حملت إحدى الأفكار، التي تم طرحها في المقالات السابقة، رأيا بشأن المقارنة بين ذكاء الإنسان والذكاء الاصطناعي في التعامل مع المعرفة. فقد رأت الفكرة أن الذكاء الاصطناعي يتفوق على ذكاء الإنسان في التعلم واستيعاب المعلومات، لكن ذكاء الإنسان يتفوق على الذكاء الاصطناعي في التفكير المطلوب للإبداع والابتكار وتجدد المعرفة. وأثارت مناقشة هذه الفكرة احتجاجا من بعض المتحمسين للذكاء الاصطناعي. فقد ركزت وجهة نظرهم، في هذا المجال، على أن الذكاء الاصطناعي قادر أيضا على التفكير والإسهام في تقديم حلول لمشكلات كثيرة.
الرأي الذي يود هذا المقال مناقشته هو أنه إذا كان الذكاء الاصطناعي يفكر فعلا، فإن لهذا التفكير صفة استرجاعية، تستند فقط إلى تلقيه واستيعابه المعلومات من جهة، وإلى مهارة برمجياته في التعامل معها من جهة أخرى. وهي في هذا الإطار، تفتقر إلى خيال إبداع أفكار جديدة غير مسبوقة، وإلى محاكمة الابتكار والاستفادة من الأفكار التي تحمل قيمة. ولعلنا لتوضيح هذا الرأي، نقدم نبذة عن خصائص التفكير الاسترجاعي الذي يقوم به الذكاء الاصطناعي، ثم نحاول بعد ذلك النظر في هذه الخصائص مقارنة بـخصائص الإبداع والابتكار، والحاجة إلى تكاملهما معا، حيث تتم الاستفادة من الذكاء الاصطناعي تحت رعاية ذكاء الإنسان.
يستند الذكاء الاصطناعي إلى عمودين رئيسين. يتمثل العمود الأول في الخوارزميات الحاسوبية، غير التقليدية أي غير المعتمدة على البرمجة التلقينية، التي تتمتع بالقدرة على تلقي المعلومات والتعلم، وتنفيذ مهارات التعامل مع المعلومات، فيما يعرف بتعلم الآلة. وتشمل هذه المهارات نشاطات عديدة مثل تصنيف المعلومات المتلقاة، وتنظيمها، ومقارنتها، واختبارها، وتقييمها، إدراك صياغتها، واختيار ما يلزم منها، وصولا إلى تقديم مخرجات معلوماتية مفيدة، تبعا للمتطلبات. وينظر إلى هذا العمود على أنه عقل الذكاء الاصطناعي. وقد تحدثنا، بشكل مبسط، عن طرق بناء خوارزميات هذا العمود في مقال سابق على هذه الصفحة، تم نشره في 14 كانون الأول (ديسمبر) 2017.
أما العمود الثاني للذكاء الاصطناعي، فمرتبط بالعمود الأول، حيث يقوم بتزويده بالمعلومات اللازمة للتعلم وتحصيل الخبرة في التطبيقات المطلوبة، وهو في ذلك بمنزلة المعلم الذي يتولى تنمية عقل الذكاء الاصطناعي وتفعيله لكي يكون أكثر قدرة على التميز في العطاء. ويرتبط ما يقدمه العمود المعلم من معلومات بطبيعة تطبيقات الذكاء الاصطناعي المطروحة، مثل الترجمة بين اللغات، وتشخيص الأمراض، وغير ذلك. وهناك عمود ثالث يرتبط وجوده بكون التطبيقات ليست معلوماتية فقط بل حركية أيضا، مثل تطبيقات روبوتات قيادة السيارة، أو روبوتات عمليات التصنيع، التي تشمل نموذجا ميكانيكيا يتم التحكم به عبر مخرجات العمودين الأول والثاني.
يتميز تعلم الآلة في الذكاء الاصطناعي عن تعلم الإنسان بعامل الزمن. ويتضمن هذا العامل سرعة التعلم من جهة، وحجم المعلومات التي يمكن استيعابها خلال زمن محدد من جهة أخرى. فإذا كانت الثانية هي الوحدة الزمنية الصغرى لتلقي المعلومات لدى الإنسان، فإن النانو-ثانية، أي جزء من ألف مليون من الثانية، هي الوحدة المماثلة لدى الذكاء الاصطناعي. وإذا كان الإنسان يتلقى المعلومات من مصادرها بشكل تسلسلي، أي معلومة واحدة في وقت واحد، فإن الذكاء الاصطناعي قادر على تلقي المعلومات من مصادر عدة في وقت واحد. وهكذا تجتمع السرعة من الحجم في مصلحة الذكاء الاصطناعي بمرات عديدة. فإذا كان الإنسان يقضي 12 عاما في التعليم العام لكي يتعلم مناهجه المقررة، فقد لا يستغرق تعلم هذه المناهج في الذكاء الاصطناعي سوى دقائق أو أقل من ذلك.
يعتمد الذكاء الاصطناعي في إطلاق معطياته في موضوع مطروح على خوارزميات التعلم لديه من جهة، وعلى المعلومات التي يتلقاها حول هذا الموضوع من جهة أخرى. وعلى هذا الأساس يمكن وصف ذكائه بأنه يستند إلى التفكير الاسترجاعي، فإمكانات تعلمه ومهارات تعامله مع المعلومات تتيح له تنفيذ عمليات تؤدي إلى استرجاع ما يفيد من معلومات يختارها مما لديه، ويقدمها بشكل منظم، تبعا لمتطلبات من يستخدم هذا الذكاء. وبالطبع فإن دقة وصحة عطاء هذا الذكاء ترتبط بما لديه من معلومات. ولا بد للإنسان المستخدم لهذا الذكاء من التدقيق بمخرجاته، قبل الوثوق بها.
لعل من حسن الطالع بالنسبة إلى إمكانات الذكاء الاصطناعي حقيقة أن احتياجات مختلف الأعمال والوظائف ترتبط بالتفكير الاسترجاعي. ويضاف إلى ذلك أن كثيرا من مؤسسات التعليم في العالم تقدم تعليما تقليديا يغرس بذور التفكير الاسترجاعي في خريجيها. ويفتح هذان السببان الباب واسعا أمام الذكاء الاصطناعي لكي يتحدى الإنسان في كثير من المهن والأعمال، ويزاحمه عليها، بل ويحل معه فيها. ويمثل هذا الأمر معضلة اقتصادية واجتماعية وإنسانية يجب العمل على حلها.
ولا بد في الختام، ملاحظة أن المنافسة على التقدم العلمي والتقني الذي يشهده العالم حاليا، تتطلب مزيدا من الاهتمام بالتفكير العلمي الإبداعي والابتكاري في التعليم وفي مؤسسات الأعمال من أجل بناء القدرة على الإسهام في تفعيل مسيرة التنمية وتعزيز استدامتها. ويأتي ذلك مع الحاجة في الوقت ذاته، وفي كثير من المهن، إلى التفكير الاسترجاعي. وهذا ما يجعلنا ندعو إلى تخطيط عالمي يستهدف شراكة فاعلة في العمل بين الإنسان وآليات الذكاء الاصطناعي.