مدرسة كينز والاقتصاد الكلي

عادة يتعامل العمود مع الفكر الاقتصادي والسياسات الاقتصادية، أو بعض النواحي التفصيلية في المال والاستثمار، وموضوعات أخرى في التنمية وما ينشر عنها. أقرأ هذه الأيام كتابا عنوانه Radical Uncertainty ليس مركز اهتمام الكتاب، لكن مما يذكر الكتاب، أن التفكير الاقتصادي وليد البيئة التي يعيشها الاقتصادي. لذلك أجد أن الجوانب الحياتية والشخصية لهؤلاء المنظرين والمفكرين والممارسين جديرة بالاهتمام، خاصة أن بعضها لا يخلو من المتعة، حتى الهفوات الإنسانية. اخترت هذه المرة الجانب الشخصي لحياة جان مينارد كينز، ربما أهم اقتصاديي القرن الـ20. عرف كينز بتحليله الكلي للاقتصاد، خاصة محاولته التعامل مع تبعات الكساد الكبير من خلال أشهر كتبه -النظرية العامة- في التوظيف والفائدة والنقود، ودوره في النظام النقدي الجديد بعد الحرب الثانية من خلال تمثيله بريطانيا في اتفاقية بريتون وودز. لكن كينز عرف عنه أيضا أن لديه اهتمامات فكرية وفلسفية وحياة نشطة ثقافيا.
ولد كينز في 1883 في كامبريدج إنجلترا. والده كان فيلسوفا واقتصاديا وأمه مصلحة اجتماعية، لذلك تربى في بيت مهتم فكريا، ودرس الاقتصاد والرياضيات في الجامعة نفسها. في أثناء الدراسة انضم إلى نخبة بلوزمبيري التي كانت تميل إلى الحياة البوهيمية وبعض الأفكار المتقدمة على العصر، من أعضائها الكاتبة فيرجينيا وولف، والفنان فورستر. عاش كينز حياة نشيطة إذ عشق الموسيقى والفنون والحفلات، وتمتع بكتابة الرسائل إلى أصدقاء في أنحاء المعمورة. على الرغم من نشاطه الاجتماعي والثقافي إلا أنه أعطى الاقتصاد وقتا كافيا للتعامل مع أهم تحديات العصر. أفكاره عن النقص في الطلب ودور الحكومة، والعلاقة مع التوقعات، لا تزال السياق الحاكم في الإدارة الاقتصادية على الرغم من النقد وظهور نظريات أخرى تحاول تفسير الحالات، والتوصية بسياسات مختلفة كالسياسة النقدية، وتجديد نظرياته بما عرف لاحقا باسم الكينزية الجديدة وغيرها من التفسيرات الأخرى.
ربما ليضيف مزيدا من الإثارة تزوج راقصة باليه روسية في 1918، على الرغم من علاقاته المتعددة والمتنوعة إلا أن علاقتهما استمرت حتى وفاته في 1946 في إنجلترا. كينز ليست اقتصاديا فحسب، بل كان مستثمرا ناجحا في أغلب استثماراته، فعلى الرغم من مساهماته الاقتصادية النظرية والتجريبية إلا أنه واسع المعرفة وعميق الثقافة وعبر عنها في مقولات عدة، نقتبس بعضا منها في مجالات متنوعة. فمثلا في الاستثمار، يقول: الاستثمار الناجح أن تتوقع توقعات الآخرين. ويقول أيضا: ممكن أن تستمر الأسواق غير عقلانية إلى حد إفلاس المستثمر. ويقول أيضا: الأسواق تتحرك طبقا للنزعات الغريزية وليس حسب المنطق. في الفكر، يقول: ليست المشكلة في استحضار أفكار جديدة بقدر ما هي قدرتنا من التخلص من الأفكار القديمة. ويقول أيضا: إن الأفكار تشكل مجرى التاريخ. يقول عن العلاقة بين علم الاقتصاد وصناع القرار أيا كانوا مستثمرين أو سياسيين: إن الممارس العملي الذي يعتقد بأنه يستطيع تجاوز التأثير الفكري الاقتصادي لا بد أنه ضحية لاقتصادي مستهلك. ويقول: إن أهمية تدفقات النقود تنبع من كونها رابطا بين الحاضر والمستقبل. في إدارة المجتمعات والتعامل مع الأفراد، يقول: إن مشكلة البشر السياسية بسبب الاحتكاكات بين الفاعلية والعدالة المجتمعية وحرية الفرد. يقول أيضا: لا بد للكلمات أن تثير الانتباه، لأنها هجوم فكري على من لا يفكر.
لست بصدد تقييم كينز، لكن معارضته الضغط ماليا واقتصاديا على ألمانيا بعد الحرب الأولى كانت علامة فارقة في قراءته النافذة للتطورات المستقبلية. وأخيرا، كتابه الشهير الذي كتبه في 1936 وما زال محددا أساسا لعلم الاقتصاد الكلي ودليلا للممارسة العملية على الرغم من المدارس الأخرى، خاصة النقدية، ورغم تآكل محسوس منذ السبعينيات، خاصة بعد ظاهرة الركود التضخمي، إلا أنه حدثت تعديلات وإضافات نظرية وتجريبية، لكن الإطار العام ما زال سيد الموقف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي