الكتابة الإبداعية.. عبقرية الذات أم وحي غريب ؟

الكتابة الإبداعية.. عبقرية الذات أم وحي غريب ؟
الإلهام وليد الذات في تفاعلها مع الواقع المعيش.

اختلف النقاد والمحققون في حسم الأسبقية من حيث الكتابة، هل كانت لـ"رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري أم لـ"رسالة التوابع والزوابع" لابن شهيد الأندلسي؟ وزادت المجايلة من ناحية الزمان دون المكان الأمر التباسا، إذ لا يفصل بين ميلاد أعمى المعرة في الشام وابن شهيد في قرطبة سوى نحو 20 عاما. فهل قرأ أحدهما رسالة الآخر، وإن كان الأمر كذلك، فمن يا ترى استلهم الفكرة من صاحبه؟
أيا يكن قارئ الآخر، يبقى مضمون الرسالتين في غاية الاختلاف، ففي "التوابع والزوابع" رحلة خيالية إلى واد عبقر، حيث التقى الأندلسي بشياطين عدد من الشعراء والكتاب. أما في رسالة المعري، وهي بدورها رحلة، فنطلع على أحوال الشعراء أنفسهم في الدار الآخرة. لكن القاسم المشترك بينهما هو فكرة الإلهام والوحي، فدوما ما كان الشعراء والأدباء، وعلى مدار تاريخ الإبداع، في حاجة إلى شيطان ملهم أو عادات طقوسية... وما إلى ذلك، من الأمور التي تراوح ما بين الغريب والمألوف، حسب نظرة المبدع إلى ما هو مقبل عليه.
فصنعة الكتابة أشبه بالملاحة، في نظر الشاعر الإيطالي فرانشيسكو بترارك "أنا غريب على الأرض، عابر كأجدادي كلهم، منفي، مسافر، قلق في هذه الحياة القصيرة". ولدى كثيرين سبب لمواصلة لعبة الحياة حتى النهاية، إذ يراها إيميل سيوران الفيلسوف المتشاؤم الأول محاولة أخرى للعيش، "إذا كانت كتبي كئيبة، فذلك لأنني أبدأ بالكتابة حين تكون لدي رغبة بإطلاق رصاصة على نفسي". وكانت الملاذ من الجحيم، بالنسبة للروائي الألماني تشارلز بوكوفسكي "ساعدتني الكتابة على الاستمرار، عندما لم تكن الحياة تقدم لي أي شيء.. عندما كانت حياتي فيلم رعب".
ولدى كتاب آخرين، لا يحتاج إلى شياطين الجن ولا الإنس، فالكتابة - عند الروائي الياباني هاروكي ماروكومي - أبعد ما تكون عن هذا التعقيد، فهي نوع من العمل اليدوي جوهريا. صحيح أن الكتابة، بحد ذاتها، عمل ذهني، لكن إنهاء كتاب كامل عمل يدوي... لا يرى الناس واقع الكتابة إلا ظاهريا، ويظنون أن عمل الكاتب عمل ذهني هادئ ينجزه في مكتبه. لكنك حينما تحاول الكتابة، ستجد أنها ليست عملا هادئا كما يبدو. إن العملية بكاملها تتطلب طاقة قصوى لوقت طويل، أكثر مما يستطيع معظمنا أن يتخيل. قد لا يكون جسدك يتحرك لكن في داخله يبذل جهدا مضن وديناميكي.
ذات الرؤية تحضر لدى الأمريكي ريموندا تشاندلر، كاتب الروايات البوليسية العظيم، الذي اعترف مرة، في إحدى رسائله الخاصة، بأنه يحرص على الجلوس إلى مكتبه والتركيز كل يوم حتى وإن لم يكتب شيئا. طريقة تشبه إلى حد ما التدريب اليومي لا غنى عنه، تمنح تشاندلر القوة الجسدية - اللازمة للكتابة وفق ماروكومي - التي يحتاج إليها كل كاتب محترف يرغب في تقوية عزيمته.
هكذا تتقلب أحوال حرفة الكتابة بين طرفي نقيض لدى الشعراء والمؤلفين، فهذا يشبه نفسه بالعازف في معرض الحديث عن الكتابة، والقول هنا لجوستاف فلوبير، "أنا مثل عازف كمان أذني الموسيقية سليمة، لكن أصابعي ترفض إعادة إنتاج المعزوفة التي أسمعها بداخلي". وذاك يصدمك بتعريفها بالأضداد، فهي لدى هيمنجواي مبدع "الشيخ والبحر" ليست بالأمر الصعب، ما عليك سوى أن تجلس أمام الآلة وتبدأ بالنزيف. أما لدى جورج أورويل فتأليف كتاب شيء مرعب، ونضال متعب، مثل نوبة من مرض مؤلم، ولا يمكنك تحمل هذا لولا أنك تقاد من قوة خفية لا يمكن مقاومتها أو فهمها.
اعتراف صاحب "مزرعة الحيوان" بغيبيات ترافق عملية الكتابة يعيدنا إلى عوالم المعري وابن شهيد، حيث كانت الطقوسية بمعقولها وجنونها، دوما رديفة لحظة الكتابة ومخاض الإبداع. فقد استعان المبدعون، على مر التاريخ، بالقوى الغيبة، لأن البيان وحي، وتفاعل روحاني تمتزج فيه الذات بعوالم أخرى ترقى أحيانا لدرجة الحلولية، كما تحدث عن ذلك الكاتب المسرحي الأمريكي نيل سايمون "أنا لا أكتب واعيا، يبدو الأمر كأن ملاكا يجلس فوق كتفي".
كان شعراء اليونان والرومان يستدعون في مقدمات منظوماتهم عرائس الشعر أو ربات الأغاني، حيث تتفرد كل عروس بفن من الفنون، فإراتو إله الشعر، وثاليا ملهم الكوميديا، ويوتيربي إله الموسيقى... وتميز شعراء العرب باستدعاء الشياطين، فقد درجت الأعراب القول بأن لكل شاعر "نجي" من الجن أو الشياطين في صناعة الشعر، فالشاعر عندهم دون شيطان كالرجل الذي لا ظل له. بذلك يكون المقصد واحدا، وإن اختلفت مسميات ما بين وحي العرائس ووحي الشياطين.
ويحدث أن يضطر هؤلاء المبدعون أحيانا إلى صناعة أجواء الإلهام، أو ما يسمى بلغة النقاد اليوم محفزات الإبداع، بطرق وأساليب خاصة. هكذا تفيد الرواية بأن شاعرا بقامة أبي تمام كان يرش الماء على تراب خيمته الحارة، ويتوسل شياطين شعره، "أخوكم... أخوكم". ويختار روائي وشاعر من طينة الأمريكي خواكين ميلر تثيبت مرشات للماء فوق منزله، لأنه لا يستطيع كتابة الشعر إلا على صوت المطر وهو ينهمر على السطح.
حاول مبدعون عقلنة عملية الإبداع بإبعاد الأسطرة عنها، معتبرين أن "الوحي نتيجة درس شاق طويل، والإلهام الفني عصارة الجهد العنيف بين واع ولا واع، وخلاصة الجهود الطويلة التي اتصل فيها الفنان بآثار أسلافه وجعلها مصدر إلهام". بذلك ينتصر هؤلاء لرأي الجاحظ بأن "المعاني والأفكار مطروحة في الطريق"، فالإلهام قد يتولد من حزن أو شجن، ومن سماع حكاية أو خوض مغامرة.
وقد يكون وليد القراءة، كما يرى ذلك عبدالفتاح كيليطو، الذي يربط الكتابة بالقراءة. هكذا يرد على الذين يسألونه، لماذا تكتب قائلا بأنه إذا ما انقطع عن الكتابة، فإنه سينقطع حتما عن القراءة لأن الكتابة هي مواصلة التحاور مع الآخرين بقطع النظر عن الزمان والمكان. لكنه يستدرك معترفا بأن "من مارس الكتابة يعرف أنه لا يرضى.. إلا عن الكتاب الذي لم يكتبه بعد، الكتاب الذي يحمله في ذهنه على شكل صور وخطوط وأشباح".
مهما اختلفت الأقاويل في شرح وتفسير لحظة الإبداع بين نسبة الأمر لعالم الغيبيات لدى طائفة من المبدعين، وإصرار آخرين على أن الإلهام وليد الذات في تفاعلها مع الواقع المعيش، تبقى الحقيقة ساطعة بأن "أصعب شيء في الحياة أن نكسر الصمت بالكلمات، ثم نكسر الكلمات بالصمت".

سمات

الأكثر قراءة