قوة الاقتصاد الروسي تتحدى استراتيجية العقوبات .. هل أخطأ الغرب التقييم؟
في خطاب السياسة الخارجية للدول الغربية، لم تكن هناك عبارة مضللة جرى استخدامها على نطاق واسع مثل عبارة مقارنة اقتصاد روسيا باقتصاد إيطاليا، للتدليل على ضعفه مقارنة بالقوة الجماعية للدول الغربية.
هذه العبارة صاغها لأول مرة السيناتور الأمريكي ليندساي جراهام عام 2014، ثم انتشرت على ألسنة وأقلام صناع السياسة والمعلقين الغربيين. وعلى مدى عقد كامل تقريبا رسمت هذه العبارة منهج التعامل الغربي مع روسيا، وقد حان الوقت للتخلي عنها بحسب الكاتب الأمريكي كارلوس روا رئيس التحرير التنفيذي لمجلة "ناشونال إنترست" الأمريكية.
وفي تحليل نشرته مجلة "ناشونال إنترست" طرح روا عدة أسئلة حول النظرة الغربية لروسيا واقتصادها، فقال "إذا كان الاقتصاد الروسي صغيرا ومتواضعا فكيف استطاع استيعاب العقوبات المفروضة عليه حتى الآن. ولماذ لم يتحقق إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن الاقتصاد الروسي سينكمش إلى النصف؟ ولماذا لم تتحقق تصريحات برونو لومير وزير المالية الفرنسي عن أن هدف الغرب هو إحداث انهيار الاقتصاد الروسي وتركيع موسكو؟".
ويضيف "فكيف لدولة اقتصادها في حجم اقتصاد إيطاليا أن تنجح في تحقيق كل هذا النفوذ العالمي للدرجة التي جعلت جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية تقول أخيرا إن العقوبات الغربية على روسيا تهدد سيطرة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي؟ وتبدو مقارنة السيناتور جراهام للاقتصاد الروسي على الورق دقيقة، فروسيا وإيطاليا متقاربتان من حيث إجمالي الناتج المحلي الاسمي، وهو الوسيلة المفضلة لقياس الحجم الاقتصادي للدولة وقوتها منذ الحرب العالمية الثانية. وبحسب بيانات البنك الدولي وصل إجمالي الناتج المحلي لروسيا عام 2013 إلى 2.29 تريليون دولار، في حين كان إجمالي الناتج المحلي لإيطاليا نحو 2.14 تريليون دولار. وفي عام 2021 كان إجمالي الناتج المحلي لروسيا نحو 1.79 تريليون دولار ولإيطاليا نحو 2.11 تريليون دولار".
ويؤكد أن الخطأ في المقارنة هنا يعود إلى الاعتماد على إجمالي الناتج المحلي الاسمي، دون الوضع في الحسبان سعر صرف عملة كل دولة وتعادل القوة الشرائية التي تستخدم في حساب مستوى المعيشة وإنتاجية الاقتصاد.
ويشير جاك سابير الاقتصادي الفرنسي إلى عدم كفاية هذا المقياس الكمي للاقتصاد ويقول "إن إجمالي الناتج المحلي لروسيا عند قياسه وفقا لتعادل القوة الشرائية كان 3.74 تريليون دولار عام 2013 و2.74 تريليون دولار عام 2021، وهو تقدير مغاير تماما للتقديرات المتداولة".
ويفسر سابير قوة الاقتصاد الروسي في مواجهة العقوبات بالقول "إنه على مدى الـ50 عاما الماضية سيطرت قطاعات الخدمات على الاقتصادات الغربية، التي تصبح أقل أهمية في أوقات الصراع رغم أنه يتم احتسابها ضمن الناتج المحلي للبلاد. وفي أوقات الصراع، يصبح إنتاج السلع الفعلية هو الأهم".
وبهذا المقياس فإن الاقتصاد الروسي ليس فقط أقوى من الاقتصاد الألماني بل إنه يزيد على ضعف الاقتصاد الفرنسي.
علاوة على ذلك فإن وضع روسيا المسيطر في سوق الطاقة والمواد الخام العالمية، باعتبارها دولة منتجة رئيسة للنفط والغاز الطبيعي والكوبالت والذهب والنيكل والفوسفات وخام الحديد والقمح والشعير، يمنحها نفوذا مهما على الاقتصادات والأسواق، ويجعلها أقل تضررا من العقوبات وأصعب في إخضاعها للضغوط الغربية.
وهذه الحقيقة لم تفت على كثير من دول الجنوب التي ترددت في دعم أوكرانيا في كفاحها ضد العدوان الروسي. وإذا كان السيناتور جراهام ارتكب خطأ كبيرا بمقارنته الاقتصادية بين روسيا وإيطاليا، فقد يمكن التسامح معه لأنه سياسي. لكن لا يمكن التسامح مع عدد من خبراء الاقتصاد والسياسة الخارجية الذين كرروا هذا الخطأ على مدى أعوام بحسب كارلوس روا.
والحقيقة أن استمرار جاذبية أسطورة اقتصاد روسيا الذي يساوي اقتصاد إيطاليا، بين هؤلاء المحترفين قد لا يكون مفاجأة في ضوء جاذبية قطاعات الخدمات في الغرب. فالنمو الكبير لهذه القطاعات كثيفة الرأسمال إلى جانب قيمتها الاسمية وإنتاجيتها جعل واشنطن وعديدا من العواصم الغربية الأخرى لا تتبنى الاقتصاد الخدمي فقط، إنما تفضله من الناحية السياسية والثقافية والأيديولوجية. ويفخر الأمريكيون بشركات التكنولوجيا العملاقة في بلادهم باعتبارها قاطرة للنمو والابتكار والفخر الوطني.
وهذا الحب لقطاعات الخدمات في الغرب أدى إلى النظر للأنشطة الاقتصادية كثيفة العمالة في الماضي مثل الطاقة والزراعة واستخراج الموارد الطبيعية والتصنيع باعتبارها أنشطة عفا عليها الزمن. لكن هذه النظرة هي التي جعلت الدول الغربية غير مستعدة لمواجهة عالم أصبحت فيه السلع الحقيقية مهمة مرة أخرى. وقد أظهرت حرب أوكرانيا أن الولايات المتحدة لا تمتلك القدرات التصنيعية اللازمة لتلبية احتياجاتها من عديد من السلع الحقيقية.
وفي أوروبا قالت بريطانيا "إنها تحتاج إلى عشرة أعوام لاستعواض مخزون الأسلحة التي منحتها لأوكرانيا وإعادة تكوين مخزون سلاح مقبول". وكذلك يواجه الاتحاد الأوروبي مخاطر كبيرة في قطاع التصنيع بعد قطع إمدادات الطاقة القادمة إليه من روسيا.
أخيرا يقول روا "إنه حان الوقت لكي يعترف الغرب بأنه أخطأ في التقليل من حجم وقوة الاقتصادات المنافسة وبخاصة الاقتصاد الروسي". وسيتعين على صناع السياسة في الغرب أن يعيدوا تقييم نهجهم الحالي تجاه فن الحكم الاقتصادي وإدراك أن العقوبات ليست مقاسا واحدا صالحا لكل الدول وفي كل الحالات، خاصة عندما تستهدف دولة تمتلك قوة اقتصادية كبيرة مثل روسيا التي فشلت معها العقوبات بدرجة كبيرة.
إلى ذلك، نقلت وكالة "تاس" للأنباء عن إلفيرا نابيولينا رئيسة البنك المركزي الروسي أمس أن روسيا تبني احتياطيات دولية بأصول لا يمكن استهدافها بعقوبات غربية.
وجمدت دول غربية نحو 300 مليار دولار، أو ما يعادل نصف الاحتياطيات الدولية الروسية، بعد أن أرسلت موسكو عشرات الآلاف من الجنود لحرب أوكرانيا العام الماضي.
وقال البنك المركزي الروسي في السابق "إنه يعد الذهب واليوان الصيني والعملات الأجنبية التي يحتفظ بها نقدا أصولا آمنة من جولات أخرى محتملة من العقوبات الغربية".