ثقافة المؤسسة .. والتوجه نحو أداء أفضل
إذا أردنا النظر في معنى تعبير "ثقافة المؤسسة"، فلعلنا نبدأ بطرح مفهوم الثقافة الذي يرتبط أساسا بالإنسان، كشخصية حية مسؤولة عن نشاطات الشخصيات الاعتبارية، أي: المؤسسات العاملة في شتى مجالات الحياة. فلثقافة الإنسان تعريف متداول منذ القرن الـ19، طرحه عالم الاجتماع إدوارد تايلور Edward Tylor. يقول هذا التعريف، إن ثقافة الإنسان هي التكوين المعقد الذي يشمل: المعرفة، والإيمان، والأخلاق، والقانون، والتقاليد، وأي خصائص أخرى وعادات يكتسبها الإنسان.
على أساس هذا التعريف تمثل ثقافة الإنسان القاعدة الرئيسة الموجهة لسلوكه، لكن خصائص هذه القاعدة تكون عادة قابلة للتكيف مع المعطيات والخبرات التي يكتسبها الإنسان تدريجيا في حياته عبر الزمن. ويأتي ذلك من خلال اكتسابه معارف متجددة، وتواصله مع معطيات الثقافات الإنسانية المختلفة، ويبرز ذلك بشكل خاص حاليا، عبر الفضاء السيبراني، الذي حول العالم إلى قرية صغيرة تتمازج فيها الثقافات المختلفة. ولا بد هنا، إضافة إلى ما سبق، من ملاحظة أن الإنسان، في أي بقعة من بقاع الأرض، يولد بفطرة إنسانية واحدة، هي بمنزلة ثقافة مشتركة بين البشر، ترتبط بخصائص مختلفة تشمل الغرائز الإنسانية، والقدرة على التفكير، وربما حس العدل، والتعرف على الخير والشر، وغير ذلك.
ليست المؤسسات شخصيات حية بذاتها كالإنسان، لكنها تصبح كأنها كذلك من خلال نشاطاتها المتمثلة في سلوك القائمين على إدارتها والعاملين فيها. ويشمل هذا السلوك كل التعاملات التي تجري داخل المؤسسة، والتعاملات التي تجري بينها وبين الجهات الخارجية، إضافة إلى أمور التنسيق بين الاثنتين. ويأتي هذا السلوك، في إطار مؤسسة ما، مستندا إلى ما يمكن أن ندعوه بثقافة المؤسسة. وللتعريف بهذه الثقافة لعلنا نرجع إلى نموذج بشأنها وضعه إدجار شاين Edgar Schein الأستاذ السابق في معهد ماساشوستس التقني أحد أشهر جامعات العالم.
كما هو الحال بشأن ثقافة الإنسان حيث المعرفة والأسس وما ينظم شؤون الحياة، فإن في ثقافة المؤسسة لدى نموذج شاين ما يماثل ذلك. يشمل النموذج ثلاثة مستويات رئيسة. المستوى الأول هو مستوى الفرضيات، ويشمل الأسس أو الثوابت السلوكية التلقائية، أو العادات التي يكتسبها العاملون في المؤسسة في أدائهم أعمالهم، وتصبح لا شعورية لديهم. ولعل في أسس القيادة والتحكم المتبعة في جيوش العالم مثالا من أمثلة الفرضيات التي قد يشملها هذا المستوى.
يتجلى المستوى الثاني لثقافة المؤسسة بالقيم التي تتبناها. وتبرز في هذا المستوى رؤية والمؤسسة ورسالتها، واستراتيجيتها وتوجهاتها، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، وكل ما يرتبط بذلك من تقارير سنوية، وموضوعات مطروحة على موقع المؤسسة على الإنترنت. ويمثل هذا المستوى الجانب الفكري المعرفي لسلوك المؤسسة الذي يضاف إلى الجانب الأساسي التلقائي لمستوى الفرضيات. وهكذا نصل إلى المستوى الثالث من مستويات ثقافة المؤسسة في النموذج، وهو مستوى الأدوات، يعبر عنه بما هو ظاهر من المؤسسة للآخرين. ويتمثل ذلك في مظهر مبنى المؤسسة والعاملين فيها، إلى جانب أساليب تعاملها مع الآخرين.
ليست مستويات ثقافة المؤسسة سابقة الذكر منفصلة عن بعضها، بل إنها مترابطة، ويدل مدى ترابطها على قوة ثقافة المؤسسة وتماسكها بتنفيذ مهماتها بتكامل وحسن أداء. ويضاف إلى ذلك حاجة ثقافة المؤسسة إلى التكيف مع المتغيرات، وتطور المتطلبات. فغياب مثل هذا التكيف، يعرض المؤسسة إلى الذبول أمام التنافس الشديد في مختلف المجالات، الذي يشهده هذا العصر. وبالطبع تختلف درجة التكيف المطلوبة في ثقافة المؤسسة تبعا للحالة المحيطة، فقد تصل هذه الدرجة إلى مستوى مرتفع. وفي هذا الإطار، هناك من يميز بين أن يكون هناك مدير للمؤسسة وأن يكون هناك قائد لها، فالمدير يلتزم بالثقافة القائمة للمؤسسة، لكن القائد يعمل على تغييرها، كي يجعلها قادرة على التكيف، وتقديم نتائج متميزة. لكن أي تغيير يحتاج إلى إرادة وحكمة كي يصل إلى النجاح المنشود.
لا شك أن لثقافة المؤسسة دورا مهما ليس في أدائها فقط، بل في القدرة على تطوير هذا الأداء أيضا. وقد تحدثنا في المقال السابق عن التطوير المستمر لأداء المؤسسات، وأوردنا الأفكار المتجددة في هذا الشأن والمصطلحات البراقة التي تستخدم للتعبير عن هذه الأفكار. وقدمنا عرضا يسعى إلى الإحاطة بهذه الأفكار في إطار خمسة محاور رئيسة شملت: الالتزام بمبدأ التطوير المستمر، والتعريف بأهداف هذا التطوير، وبيان متطلبات العمل على تحقيقه، ووضع معايير ومؤشرات للتقييم والمراقبة، وتحديد مسار التنفيذ وخطواته، إضافة إلى الاهتمام ببيئة العمل التي تؤثر في تنفيذ مهمات متطلبات التطوير المستمر المختلفة.
يمكن النظر إلى بيئة العمل في مؤسسة، وطرق تنفيذ المهمات المختلفة المرتبطة بها، وسلوك العاملين على هذا التنفيذ، كمعطيات نابعة من ثقافة المؤسسة، أو بالأحرى من مستوياتها الثلاثة: الأسس، والقيم، والأدوات. وعلى ذلك فإن لثقافة المؤسسة صوتا عاليا في مستوى أدائها، وفي التطوير المستمر لهذا الأداء. وإذا أرادت أي مؤسسة تحقيق أداء متميز ومتطور من أجل المنافسة في السوق والازدهار في العمل، فإن عليها أن تهتم بالثقافة التي تستند إليها وقدرتها على التكيف، وتوافق هذه الثقافة مع محاور تطوير الأداء سابقة الذكر أنى كان عنوان استخدامها، سواء كان أسلوب الأهداف والنتائج الرئيسة OKR، أو غير ذلك.
يحتاج النجاح في بناء ثقافة مؤسسة، وتوافق هذه الثقافة مع متطلبات تطوير الأداء، إلى رضا الإنسان، سواء كان من منسوبي المؤسسة ومنفذي نشاطاتها، أو من المتعاملين معها والمتلقين لمخرجاتها. ويتمثل مثل هذا الرضا بالدرجة الأولى في القناعة بالعمل والنشاطات القائمة، وفي التعاون وتوزيع العمل في إطار فرق عمل متوافقة في بذل الجهود، ومتكاملة في تنفيذ المهمات. ثم هناك عامل الثقة بالتعامل بين العاملين داخل المؤسسة، ومع المتعاملين من خارج المؤسسة. ويضاف إلى ذلك تحفيز المتميزين، وتعزيز العلاقات الاجتماعية بين العاملين، بما يجعل الإقدام على العمل والإنجاز متعة أكثر منه عبئا.