هل يمكن تغيير المنهج العلمي؟

من يريد أن يقدم منهجا جديدا للكشف عن الحكم الشرعي بخلاف المستقر من المناهج فإن عليه أن يقدم ثورة علمية. وهذا يعنى مبدئيا أنه يمكن إنتاج مذهب علمي جديد في الفقه، ومن الملاحظ أنني أخلط بين مصطلحي المذهب والمنهج، وهذا عن قصد، فليس المذهب إلا آلية تحكم العقل عند الوصول للحكم الشرعي، وهذا هو المنهج العملي بوصفه الحديث. ورغم أن من الممكن نظريا تحقيق ثورة علمية في مناهج الفقه، إلا أن ادعاء ذلك غير ممكن عمليا ولا صحيح علميا، والصعوبة تكمن في آلية عمل الثورات العلمية.
فالثورات العملية ليست مخططة، ولا وليدة الرغبة، أو اللحظة، ولا يمكن توقعها أو الإحساس بها إلا بعد وقوعها، هكذا هي بنية الثورات العلمية. ومن يظن أن القول ببعض الأحكام الفقهية خارج سياق المناهج القائمة - المذاهب - يعني أنه قد تم إنتاج منهج جديد أو قام بثورة علمية جديدة، فهو لم يدرك معنى الثورة العلمية، وكيف تظهر للوجود، فالثورات العلمية لها كيان خاص بها، لولا وجودها المستقل عن العاملين فيها، بل هم في مرحلة ما لا يدركون أنهم يعلمون على إنتاجها.
لقد كان العالم الفيزيائي توماس كون، أول من صرح بمصطلح الثورات العلمية، وقدم لها فلسفة متكاملة الأركان، ظلت تلك الفلسفة تشغل العاملين في هذا الحقل حتى اليوم، وبنية الثورات العلمية تتطلب أولا فهما عميقا لمنهجية وآلية عمل الديالكتيك، ولا يجوز لشخص أن يعمل في حقل الثورات العلمية وفلسفة العلم وهو لا يدرك آليات عمل الديالكتيك، بل يستخدمها فعلا، فإذا كانت الثورات العلمية تشبه برامج التطبيقات مثل أبل باي أو برنامج الإكسل الشهير فإن برامج التشغيل مثل ويندوز والأندرويد هي الدياكلتيك، والدياكلتيك ليس مجرد أسلوب للجدل، بل هو معنى فلسفي عميق يعنى أن كل نظام "نظرية علمية أو غيرها" ينتج من نفسه ما ينقضه، ثم يظل النظام نفسه ونواقضه في صراع حتى ينتج من خلال ذلك الصرع نظام جديد، والنظام الجديد ينتج من نفسه نواقضه وهكذا. فالثورة العلمية إذن هي نواقض العمل المستقر نفسه، من بين أفكاره وبراثنه، نتجت من تناقضاته، من فشله، وليست نتيجة أعمال خارج العمل نفسه أو تحديات من خارج إطاره، إذن تلك التي تأتي من الخارج ليست سوى نظريات منافسه لا أقل ولا أكثر، تضمحل مع الوقت كلما ترسخ العلم المستقر في الكتب والمناهج المدرسية، وتبنته سياسة وطنية عن قصد.
لعل القارئ الكريم لاحظ مفهوم العلم المستقر، حيث لا توجد ثورة علمية بلا علم مستقر، والعلم يصبح مستقرا عندما يكون شائعا متداولا بشكل عادي ويومي ومفهوم ويتم التأليف والكتابة والتدريس وفقا له، وإذا كان من شروط العلم المستقر أن يكون بهذا الرسوخ فكيف تأتي الثورة العملية؟ تأتي أدوات الدياكلتيك مرة أخرى لتفسر ذلك، فالعلم المستقر يولد أبحاثا ودراسات وأعمالا شاقة لكن نتائجها تناقض العلم نفسه، وفي هذه المرحلة يكون الشك في الباحثين وأدواتهم وليس في العلم المستقر ذاته، ليبدأ صراع علمي طويل وشاق وقاس بين علماء العلم المستقر المدافعين عنه والباحثين الجدد الذين جاءت نتائجهم على نحو لا يفسره العلم المستقر.
لقد بين توماس كون ذلك الصراع وأنه يتطلب محاكمة صارمة وقاسية لكل الإنتاج العلمي بين الطرفين يتنافسون على كشف الثغرات في مناظرات فلسفية كبرى "محاكمة صارمة"، وقد يتعرض المفسرون الجدد لمحاربة والتهجير والتجهيل وغير ذلك، وقد تهدأ الأمور فترة ثم يتجدد الصراع فترة أخرى وهكذا حتى يتراكم كم كبير من الأبحاث والدارسات والباحثين وانكشفت ثغرات أكثر في العلم المستقر، قبل أن يقوم علماء المجموعة الجديدة بتقديم الحل الثوري في شكل منهج علمي للكشف عن الحقيقة له قواعده وأصوله الجديدة. فالثورة العلمية لا تعني الفكرة الناشزة التي شذت عن القاعدة، بل الثورة العلمية وليدة المنهج العلمي الراهن، هي ابنته وربيبته، وحولها يتجمع نخبة المفكرين الجدد الذين اكتشفوا كمجموعة الثغرات القائمة وسطروا فيها دراسات تحدوا من خلالها أستاذتهم وحددوا بجلاء المشكلة في المنهج الراهن وفشله في معالجة المشكلات الفكرية القائمة ثم يدافعون ببسالة وصبر عن الحل الجديد ومنهجه، ولا بد للمنهج الجديد كشرط لازم أن يعالج كل الظواهر السابقة في سياقها ولا يخرجها منه وإلا تهدم العلم عن بكرة أبيه، ورويدا رويدا تصبح الثورة العلمية هي العلم المستقر الجديد ويتم هجران كل الفلسفة السابقة وتنشأ مدرسة جديدة كليا، هكذا دون وعي من أحد ودون موعد محدد، ولا إعلان الانتصار. لا أحد يعرف كم يستغرق هذا الجدل والصراع من وقت لكنه مرهون بفشل العلم المستقر في الإجابة على الأسئلة وقدرته على تطوير ذاته ومعالجة نواقضه.
في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانت الأحكام تأتي نصا، سواء من القرآن الكريم أو أقوال النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو أفعاله، ثم لما توفي وتباعدت المدن الإسلامية عن بعضها، ولبعد المسافة عن المدينة ظهرت مدرسة أهل الرأي وهم جماعة من الفقهاء الذين تعلموا على يد كبار الصحابة والتابعين لكن تأتيهم قضايا ليس فيه نص واضح قاطع الدلالة عندهم فكيف لهم استنباط الحكم فيها؟ وخلال فترة من الزمن تزاحم النقاش بشأن لزوم النص ولو كان قولا من أحد التابعين ومن يرى أنه لا نص إلا القرآن والسنة النبوية، حتى ظهر أبو حنيفة النعمان أحد علماء الكوفة من مدرسة الرأي، وهو يقول فيما روي عنه "إذا جاء الرأي من التابعين زاحمناهم"، وكان واضحا بجلاء توسع حجم الخلاف بين المدرستين، مع كثرة المنتمين للمدرستين وظهور كتب ومجالس وحكام ودول أيدت هذا أو ذاك، حتى جاء الشافعي في ثورة علمية وهو أول من دون المنهج العلمي للوصول للحكم الشرعي وفقا لخمس مراتب والترتيب فيها واجب، أولها القرآن ثم السنة وفي المرتبة الثانية يأتي الإجماع وفي المرتبة الثالثة يأتي قول الصحابي الذي لم يعرف له مخالف وفي المرتبة الرابعة عند اختلاف الصحابة فيؤخذ أقربهم إلى الكتاب والسنة لكن لا يتم تجاوز أقوالهم إلى قول غيرهم والخامس هو القياس على أمر قد عرف حكمه من المراتب الأربع السابقة.
لم يكن الأمر ليقف عند الشافعي والأئمة الأربعة، في الوصول لمنهج علمي بل لقد ظهرت مناهج كثيرة من بينها المنهج الظاهري، ومناهج أهل الكلام، وغيرهم كثير، لكن قدرة أي منهج على الصمود تعتمد على قدرته في الإجابة على الأسئلة القديمة ووضعها في سياقها الصحيح المستقر ومن ثم الانطلاق في معالجة الظواهر الجديدة، ثم بناء مؤسسة عملية من مجموعة العلماء الذين آمنوا بالمنهج الجديد وكتبوا فيه مؤلفاتهم، درسوه وتبنته أمة من الأمم قبل أن يصبح علما مستقرا دون وعي من أحد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي