الغموض يكتنف مستقبل العملات المشفرة .. هل بيتكوين مشروع احتيالي أم استثمار مبتكر؟

الغموض يكتنف مستقبل العملات المشفرة .. هل بيتكوين مشروع احتيالي أم استثمار مبتكر؟
الغموض يكتنف مستقبل العملات المشفرة .. هل بيتكوين مشروع احتيالي أم استثمار مبتكر؟

في عالم اليوم يوجد ما يزيد قليلا على 82 مليون شخص من أصحاب محافظ العملات المشفرة، والسؤال هل سيأخذ هذا العدد في النمو والازدياد أم أن مصيره التناقص مع مرور الوقت؟
لا شك أن العملات المشفرة واحدة من أكثر موضوعات المالية العامة والاستثمار إثارة للجدل في الوقت الراهن.
ففي أعوام ماضية صنف عديد من كبريات الصحف الاقتصادية والخبراء العملات المشفرة باعتبارها أفضل أنواع الاستثمار، لكن في الوقت ذاته وربما في العام نفسه الذي احتلت فيه العملات المشفرة تلك المكانة، كان كبار المسؤولين في بنوك عالمية ومواقع اقتصادية لها ثقلها، لا يعدونها أسوأ استثمار فحسب، بل يقيمونها كعملية "احتيال مالي" كبير.
كما أن ثمانية من الفائزين بجائزة نوبل في الاقتصاد أعلنوا موقفهم منها كـ"فقاعة اقتصادية" ستنفجر في أي لحظة، وفي أحيان كثيرة كانت المواجهة مع سوق العملات المشفرة تذهب بعيدا، خارج نطاق الخلافات في تقييم الآثار المالية والاقتصادية لها، لتدخل على خط المواجهة مجموعة من المؤسسات والأجهزة الأمنية مثل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي الذي أغلق عديدا من شبكات المتاجرة في العملات المشفرة عبر الإنترنت، علاوة على قيام عدد كبير من دول العالم بمنع الاتجار بها، في مسعى لحماية أموال مواطنيها.
وفي عام 2021 أشار الكونجرس الأمريكي إلى أن تسع دول تحظر تماما استخدام العملات المشفرة، و42 دولة أخرى تحظرها ضمنيا، لكن في الوقت ذاته اعتمدتها السلفادور كعملة قانونية، وأخيرا قبلت أوكرانيا التبرعات بالعملات المشفرة لتمويل الحرب الدائرة مع روسيا، بينما تستخدمها كوريا الشمالية وإيران وفنزويلا كوسيلة لتجاوز العقوبات الدولية المفروضة عليها.
بدأت قصة العملات المشفرة في اليوم الأخير من أكتوبر عام 2008، بعد نحو 45 يوما فقط من انهيار بنك ليمان براذرز الذي فجر انهياره أزمة مالية عالمية استمرت لأعوام عدة، في ذلك اليوم -31 أكتوبر 2008- تم نشر ورقة بحثية تتضمن مجموعة من المعادلات الرياضية المعقدة لا يستوعبها إلا المتخصصون. مثلت تلك الورقة الإطار النظري لظهور نوع جديد من العملات لا يعتمد على مفهوم الثقة كما هي الحال في العملات المتداولة حاليا، حيث يضمن كل بنك مركزي قيمة العملة التي يصدرها، إنما تعتمد على مفهوم "التشفير" بوصفه نظام دفع إلكترونيا.
لكن من كتب تلك الورقة البحثية التي أطلقت صافرة البداية لعالم العملات المشفرة؟ كل ما نعرفه حتى الآن أن كاتبها هو ساتوشي ناكاموتو، وهل هو مبرمج كمبيوتر، أم أستاذ في الرياضيات، أم خبير اقتصادي، هل هو شخص واحد أم مجموعة من الأشخاص؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين حقيقة ساتوشي ناكوموتو، مفجر ثورة العملات المشفرة.
كانت بيتكوين أول العملات المشفرة التي ظهرت إلى الوجود، والاسم مكون من شقين، وحيث إننا نتحدث عن عملة مرتبطة بعالم الكومبيوتر والرقمنة، فإن الشق الأول من الكلمة أي "بيتا" يعبر عن الوحدة الأساسية للمعلومات في مجال الكمبيوتر والاتصالات الرقمية، أما الشق الثاني من الكلمة أي "كوين" فهي تعني عملة باللغة الإنجليزية.
ربما تكون بيتكوين أول العملات ظهورا لكن المؤكد أنها ليست الوحيدة أو الأخيرة، فقد ظهر بعدها عشرات ومئات وآلاف من العملات المشفرة، مع ذلك ظلت بيتكوين تحافظ على تميزها وموقعها الفريد في هذا العالم، لتحتل موقع سيدة العملات المشفرة، بوصفها أول من فتح بابا لعصر العملات المشفرة.
الباحثة جوليا ديفيد من مجلس منتدى الاقتصاد العالمي ترى أن الفكرة الرئيسة للبيتكوين ونظيراتها من العملات المشفرة هي اللامركزية وتقنية "البلوكتشين" أو سلسلة الكتل.
وتقول لـ"الاقتصادية"، "مفهوما اللامركزية وسلسلة الكتل مترابطان في مجال العملات المشفرة، فاللامركزية تعني أن الربط بين المشتري والبائع يتم دون طرف ثالث أو وسيط أو رقابة، وهذا يعني أن العملات والتبادلات التجارية نظريا على الأقل تكون أقل تكلفة نتيجة استبعاد الوسيط".
وتضيف "بالنسبة إلى تقنية سلسلة الكتل فهي تقنية أتاحها انتشار أجهزة الكمبيوتر والإنترنت على مستوى العالم، وتسمح بأن يكون لدينا دفتر الأستاذ المحاسبي الذي يسجل المعاملات، ونظرا لأن أعدادا كبيرة من الأشخاص تقوم بعملية التبادل، فإنه لا يمكن التلاعب في عمليات التسجيل تلك، وهذا يوفر ثقة بأن المعاملات منضبطة".
مع هذا فإن حديث أنصار بيتكوين بأنها تلغي فكرة "المركزية" السائدة في عملات اليوم، ليس فقط أمرا مبالغا فيه، إنما من وجهة نظر عديد من الخبراء يستهدف الدولة كمفهوم، فتقنية سلسلة الكتل لا تعمل في فراغ، وهي تعمل داخل الاقتصاد السياسي ككل التقنيات الأخرى.
وفكرة أن العملة يمكن ان توجد دون سيطرة مؤسسات الدولة وتدخلها لتوجيهها بما يحقق المصلحة العامة، ليست فكرة خطيرة فحسب لكنها فكرة خاطئة أيضا، فلا يمكن فصل المال عن السياسة، والمال يؤثر في قوة الدول ومكانتها، ولا يمكن أن يترك للعبث به.
لكن البدايات الغامضة لبيتكوين، وارتباطها بمفاهيم تقنية معقدة، تتطلب درجة عالية من التخصص يصعب على الجمهور فهمها أو الإلمام بها، يجعل كثيرا من الخبراء يتساءلون: هل نقف على أعتاب عملية احتيال مالي دولي واسعة النطاق، أم أننا نواجه فقاعة مالية قابلة للانفجار، أم أن بيتكوين وأخواتها من العملات المشفرة تمثل حلولا مالية مبتكرة بإمكانيات كبيرة، لكنها تنطوي أيضا على مخاطر كبيرة؟
يرى إم. أرثر المحلل المالي في بنك إنجلترا أن بيتكوين ربما لا يكون لها مستقبل كعملة منافسة للعملات المتداولة الآن كالدولار والفرنك السويسري والاسترليني، إنما المستقبل للتكنولوجيا التي تعتمد عليها بيتكوين وغيرها من العملات المشفرة.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن الشيء الأكثر إثارة في بيتكوين هو التكنولوجيا التي تقف وراءها، سلسلة الكتل سجل شفاف عبر الإنترنت لكل معاملة على كل بيتكوين، إنه دفتر أستاذ مالي إلكتروني عملاق يستخدم للمصادقة على كل معاملة، وتلك التقنية تصل إلى ما هو أبعد من عملة بيتكوين، إنها طريقة للتحقق من الملكية وإبرام العقود، ومثلما أنشأت تقنية سلسلة الكتل عملة تعمل دون الحاجة إلى بنك، يمكن أن تساعد المستخدمين في الحصول على قروض دون البنك أو القيام باستثمارات دون وسيط أو بورصة".
يطرح الدكتور إريك تيموين الأستاذ المساعد في مدرسة لندن للتجارة وجهة نظر قائمة على أن بيتكوين لن تكون ناجحة كوسيلة للدفع فهي غير مستقرة ولا يقبل بها الجميع ومبهمة في الكيفية التي تعمل بها، ومع ذلك يمكن أن تستمر على المدى الطويل كفئة من فئات الأصول عالية المخاطر، حيث يمكن أن يؤدي الاستثمار فيها إلى أرباح مرتفعة للغاية، وأيضا إلى خسائر كارثية تطيح بكل ما تملك، إنها تدخل في فئة المقامرة.
ويقول لـ"الاقتصادية"، "إن المشككين يراوحون بين اتجاهين، الأول يرى أنها عملية احتيال مالي من أشخاص وجهات مجهولة، يهدفون إلى الاستيلاء على أموال صغار المستثمرين والراغبين في تحقيق المكسب السريع، أما المشككون الأقل تشاؤما فينظرون إليها باعتبارها فقاعة استثمارية، ويتوقعون حدوث انهيار مستقبلي في قيمتها هي وغيرها من العملات المشفرة، لكن ما يلاحظ أن بيتكوين انحرفت عن الهدف الذي نشأت من أجله، فقد صممت لتكون وسيلة للدفع بدلا من العملات الراهنة، مع هذا لم تتمتع حتى الآن بالقبول المطلوب في هذا المجال، لكن مزيدا ومزيدا من الأشخاص ينظرون اليها كفئة استثمارية جديدة، وفي أفضل الأحوال ستكون منتجا ماليا جديدا يوجد بجانب المنتجات المالية التي نعرفها ونتعامل بها، لكن لن تتمتع بشعبية كبيرة".
باختصار تعتقد أغلبية عظمى من الخبراء أن بيتكوين ستقتصر على المؤمنين بها، ربما يزيد أو ينقص عددهم، لكن لن يمثلوا الأغلبية العظمى من جموع المتعاملين بالنقد، فبيتكوين في أفضل الأحوال سينظر إليها في أي مجتمع على أنها عملة "أجنبية" لا يدعمها اقتصاد حقيقي.
جانب آخر يشير إليه عدد من الخبراء المصرفيين الذين يحذرون من إمكانية انفجار "فقاعة البيتكوين" في أي لحظة لتصيب أصحابها بخسائر مهولة. فالارتفاع الذي نشهده في أسعار البيتكوين من حين لآخر يعود إلى الندرة المصطنعة في تلك العملة، إذ إن هناك كمية محددة ومحدودة متاحة من عملات البيتكوين على المستوى العالمي، وارتفاع الطلب مع محدودية العرض غير المرن يؤدي إلى ارتفاع الأسعار، وهذا الامر مختلف عن العملات المادية الملموسة كاليوان الصيني مثلا، فتحسن قيمة اليوان الصيني في مواجهة الدولار يعود إلى نمو الاقتصاد الصيني في مواجهة الاقتصاد الأمريكي، وليس بالضرورة إلى نقص المعروض من العملة الصينية.
ومحدودية العدد المتاح من وحدات بيتكوين كعملة تعني أنها لن تكون عملة جادة يمكن الاعتماد عليها، فاستقرار الأسعار في أي مجتمع يتطلب أن يكون المعروض من النقود مرنا، بحيث يمكن زيادته بما يتماشى مع نمو الاقتصاد، وهذا تحديدا ما دفع البشرية إلى التخلي عن استخدام الذهب كعملة، فمحدودية المعروض منه تعوق عمله كـ"نقود".
تصف لوسي توماس الرئيس التنفيذي للمجموعة الدولية لحماية البيئة عملة بيتكوين بـ"عدوة البيئة". وتقول لـ"الاقتصادية"، "إن عملية تعدين البيتكوين عملية كثيفة الاستهلاك للطاقة، وكل معاملة في شبكة بيتكوين تستهلك 750 كيلو واط من الطاقة أي ما يكفي للقيام بـ450 ألف معاملة بالبطاقات الائتمانية، أي ما يوازي استهلاك اسرة هولندية من الطاقة لمدة 75 يوما".
وتضيف "البيتكوين تسير ضد التيار العالمي الراهن الداعي إلى ترشيد استخدام الطاقة".
مع هذا يظل السؤال قائما: هل يمكن الاستثمار في بيتكوين أن يجعلنا اثرياء؟
يجيب البروفيسور أنطونيو كوبر الرئيس السابق للجنة التنسيق المالي في مجموعة نيت ويست المصرفية قائلا "لا تستطيع بيتكوين أن تجعلنا جميعا أثرياء، على الأقل ليس دفعة واحدة، لأنه لا يوجد اقتصاد حقيقي يقف خلفها ويدعمها، فإذا حقق مستثمر في بيتكوين ربحا جيدا، فإن ذلك يحدث لأن هناك شخصا آخر قام بشراء البيتكوين منه، وطالما ظلت الأموال تتدفق على سوق بيتكوين من عالم الدولار والين والاسترليني والعملات الأخرى، يمكن أن تواصل أسعارها الارتفاع، لكن إذا جف هذا التدفق، ويمكن أن يحدث ذلك في أي وقت وفي غضون ساعات، فإن الانهيار سيحدث في دقائق، فطالما لا يقف خلفك اقتصاد ينتج سلعا وخدمات، فإن السقوط أمر محتم مهما طالت لحظات الثراء".

الأكثر قراءة