صناعة الأدوية .. تحديات معقدة وهوامش ربح مهددة في سوق قيمتها 5.4 تريليون دولار
بلغة الأرقام تعد الصناعات الدوائية واحدة من أكثر الصناعات أهمية وضخامة على مستوى الاقتصاد العالمي. فالقيمة الاجمالية لها تقدر بـ5.4 تريليون دولار، وبذلك تكون واحدة من أكبر خمسة قطاعات في الاقتصاد العالمي.
في عام 2021 حقق قطاع الأدوية عائدات بلغت 1.4 تريليون دولارعلى المستوى الدولي.
وبالنسبة إلى المستقبل، يتوقع أن تنمو الصناعة بشكل كبير ومتسارع في العقود المقبلة، وأن يتضاعف إجمالي إيرادات صناعة المستحضرات الصيدلانية ثلاث مرات من حيث القيمة الحقيقية بين عامي 2017 - 2060.
تلك القوة المالية والاقتصادية الهائلة لا تنفي أن القطاع الدوائي يجابه تحديات متنوعة ومعقدة، ولكي يستطيع رؤساء مجالس إدارات شركات الدواء في العالم الحفاظ على عمليات تشغيلية مربحة، فإنهم في حاجة إلى تبني استراتيجية مرنة قادرة على التعامل الجريء وأحيانا الجسور مع التحديات التي تواجههم، وفي مقدمتها البيئة التنافسية العنيفة التي تشهدها الصناعة، والتقنيات الحديثة التي باتت ضرورية لضمان الوصول إلى منتجات دوائية جديدة، أضف إلى ذلك القضايا الأخلاقية والاحتياجات المالية المتزايدة للاستفادة من الثورة الرقمية وقدرتها على تشكيل مستقبل قطاع الصناعات الدوائية.
واحدة من نقاط القوة في الصناعات الدوائية تكمن في الطلب غير المرن نسبيا على الأدوية، إذ يمكنك أن تتخلى عن إجازتك السنوية، أو تؤجل قرارك بشراء سيارة جديدة هذا العام، لكن يصعب إن لم يستحل أن تتخلى عن شراء أدوية الضغط أو السكر الذي تعانيه.
الطلب غير المرن على المستحضرات الطبية يسمح لشركات الأدوية بالحفاظ على هوامش ربح جيدة حتى أثناء تباطؤ النمو الاقتصادي، ومع ارتفاع معدلات التضخم كما هو الوضع حاليا، فإن كثيرا من المستثمرين يبحثون عن الأمان المالي باستثمار مدخراتهم أو رؤوس أموالهم في قطاع اقتصادي يوفر لهم درجة من الحماية المالية ويحقق في الوقت ذاته هامشا جيدا من الربح، وغالبا ما توفر شركات الأدوية تلك المعادلة، خاصة في الفترات التي يحلق فيها الركود الاقتصادي في الأجواء.
مع هذا يرى جوردي كوبر المحلل المالي في بورصة لندن، أن مستقبل الصناعة سيعتمد على قدرة قادتها على إقناع المستثمرين بأن استراتيجيتهم الدوائية قادرة على زيادة معدلات الأرباح في المديين المتوسط والطويل. ومن وجهة نظره، سيظل ذلك العنصر الحاسم في حفاظ الصناعة على جاذبيتها الاستثمارية.
ويقول لـ «الاقتصادية»، "إن حفاظ الصناعة الدوائية على جاذبيتها الاستثمارية ليس بالأمر السهل، ففي المديين المتوسط والطويل سيخرج عديد من الأدوية الرئيسة من براءات الاختراع، ومن أصل 900 مليار دولار من عائدات الأدوية في عام 2021، ستخسر عائدات الأدوية بين عامي 2025 و2030 نحو 230 مليار دولار نتيجة انتهاء فترة الحماية المفروضة على براءات الاختراع".
ويضيف "لذلك فالصناعة الدوائية في المرحلة الراهنة عليها التحرك على جبهتين دون أن تغفل أيا منهما، عليها مواصلة العمل على الجبهة الداخلية إذا جاز التعبير من خلال ضغط التكاليف وضمان الجودة وتحقيق مزيد من الاكتشافات الدوائية، وهناك الجبهة الخارجية وتحدياتها طويلة الأمد ويشمل ذلك ارتفاع معدلات التضخم، وزيادة التعقيدات والمخاطر، وهذا يتطلب تعبئة هائلة للموارد وترتيب الأولويات".
من المؤكد أن الطلب العالمي سيزداد وبسرعة على الأدوية في الأعوام المقبلة، وستزيد الحاجة الإنسانية غير المسبوقة إلى اللقاحات والعلاجات المختلفة، ولا شك أن ذلك يوجد حالة من الارتياح لدى قادة الصناعة تجاه المستقبل، مع ذلك فإن المشهد العام للصناعات الدوائية يتغير نتيجة تنامي العلاجات الجديدة سواء بالخلايا أو الجينات.
مع هذا يعتقد بعض الخبراء أن هناك اتجاهات عالمية قد تضع الصناعة في مأزق في الأعوام المقبلة إذا لم تؤسس من الآن لقاعدة تمكنها من استيعاب تلك الاتجاهات.
جيم كايل أستاذ التجارة الدولية في جامعة جلاسكو، يرى أن قطاع الصناعات الدوائية وأيا كان ما يميزه عن غيره من القطاعات الصناعية، فإنه يشترك مع باقي الصناعات في مجموعة من القواسم المشتركة أبرزها التعرض لضغوط سلاسل التوريد، وعلى الرغم من أن صناعة الأدوية تعد من الصناعات المحمية إلى حد كبير نتيجة مستويات المخزون المرتفعة، إلا أن اضطراب سلاسل التوريد كفيل بأن يؤدي إلى خسارة الصناعة ربع معدل الأرباح.
ويقول لـ «الاقتصادية»، "إن مستويات التضخم الحالية التي لم يشهدها الاقتصاد العالمي منذ عقود، أدت إلى زيادة تكاليف العمالة والمواد الخام والنقل، وضغوط الأسعار تلك لا يتوقع أن يتحملها المستهلك بالكامل، ما يضغط على هوامش الأرباح بالنسبة إلى الشركات".
ويركز جيم كايل على منظور التكلفة وتأثيره في الصناعات الدوائية في ضوء التوقعات المتعلقة بحدوث زيادة كبيرة في متطلبات الإنفاق الرأسمالي، سواء تعلق الأمر بالإنفاق لإعادة صقل مهارات العاملين بما يتلاءم مع الأساليب التكنولوجية الحديثة، أو قيام شركات الدواء بعملية إحلال كامل للقوى العاملة واستبدالها بالذكاء الاصطناعي والأتمتة وتطوير الأدوات الرقمية والروبوتات المستخدمة في الصناعة.
ويضيف "تلك الاتجاهات تمثل تحديا كبيرا وتوجد مشهدا أكثر تعقيدا بالنسبة إلى الصناعة يصعب الجزم في المرحلة الراهنة بكيفية تأثيره فيها".
وبالفعل أعرب عدد كبير من قادة الصناعة وفي أكثر من مناسبة عن خشيتهم من أن يمثل التضخم الجامح مصدر قلق وإرباك كبير لمخططاتهم في التطوير والتوسع، وعلى الرغم من أن أغلب التوقعات تشير إلى أن تأثير التضخم في المستوى العالمي سيكون أقل حدة بنهاية العام، إلا أن الضغوط التضخمية ستكون أقوى في بعض الأسواق عند مقارنتها بأسواق أخرى.
هذا الوضع يدفع بشركات صناعة الأدوية العالمية إلى إعادة تنظيم نماذج أعمالها، سواء عبر تحسين القرارات المالية، وتعزيز الأداء، وتسريع وقت الوصول إلى الأسواق بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، ومعالجتها عبر الحواسيب العملاقة.
من هذا المنطلق ترصد الدكتورة كارن ليسينا، نائب المدير العام لوحدة الأبحاث التطبيقية في مدرسة لندن للاقتصاد، ظاهرة التحالفات والتعاون بين كبرى شركات الأدوية وموردي تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي باعتبارها أحد المظاهر الأساسية للقطاع الدوائي في العام الماضي وفي الأعوام المقبلة أيضا.
وفي هذا المجال تضرب مثلا بالتعاون بين Sanofi وExscientia لإنشاء خط أدوية مصمم بدقة لعلاج الأورام، وهذا التعاون بين شركات الدواء وشركات الذكاء الاصطناعي، يحدث طفرة نوعية في مجال الصناعات الدوائية، يضاف إلى ذلك استخدام الحوسبة السحابية باعتبارها واحدة من أكثر التقنيات ثورية في صناعة الأدوية بمقارنة بالأساليب القديمة، حيث تساعد التقنيات الجديدة شركات الأدوية على ابتكار وتقديم علاجات حديثة في السوق بسرعة أكبر.
مع هذا يرى كثير من الخبراء في مجال الصناعات الدوائية أن الأدوية المصممة خصيصا تفتح آفاقا واعدة لعلاج مجموعة واسعة من الأمراض، مع توقع ارتفاع صناعة الأدوية المتخصصة في جميع أنحاء العالم إلى 717 مليار دولار بحلول عام 2025، ولا سيما فيما يتعلق بعلاج الأمراض والوقاية منها.
ويشير الدكتور إل. دي. مايكل أستاذ العقاقير في جامعة أدنبره إلى تقدم عمليات البحث والتطوير للطب المخصص بشكل كبير نتيجة التطورات الأخيرة في البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي والاختبارات الجينية.
ويقول لـ «الاقتصادية»، "إن الصناعات الدوائية تقف الآن على أعتاب مرحلة جديدة من التطور المستقبلي، مدعومة في ذلك بتطورات تقنية غير مسبوقة، وبطلب دوائي خاص تحركه الزيادة واسعة النطاق في الشرائح ذات الثراء المفرط، إلا أن ذلك يتطلب استثمارات مالية ضخمة لتستطيع الشركات الدوائية مواكبة التغيرات المتزايدة في تكلفة الإنتاج".
وتوقع حدوث اندماجات في الصناعة، لا تقف عند حدود شراء أو استحواذ شركات الأدوية على بعضها بعضا، "إنما سنشهد بروزا متزايدا لاستحواذ شركات الدواء على شركات الذكاء الاصطناعي والشركات التكنولوجية، لتكون لديها القدرة على مواكبة احتياجات المرحلة الجديدة من تطور الصناعة الدوائية".