«كيف قتلت أبي» .. طفلة تعانق ألمها في لعبة الحياة
مرارة الفقد لا يشعر بها إلا من مر بالتجربة، وعاش لحظة الألم، وشكل غياب المحبين فجوة في حياته لا تملأ أبدا.
في تأبين حزين، تتناول رواية "كيف قتلت أبي"، للروائية الكولومبية سارة خاراميو كلينكرت، لحظة مقتل الأب، والذي بموته يشعل الأحزان والأحداث، وباتت الكاتبة من بعد تلك اللحظات المريرة زهرة ذابلة، منزوعة من جذورها، إثرها تفككت العائلة بعد أن أنهكها الماضي، لتدفن أخيرا في طيات هذا الكتاب والدها الذي لم يعد يعيش تحت التراب، وإنما في هذه الصفحات، ولا يخطر في البال مكان أفضل للعيش من كتاب.
أعمق الذكريات
تغوص الروائية الكولومبية في أعمق ذكرياتها، وتسعى إلى مواجهة مخاوفها وأشباحها بشجاعة، مستعينة بالكتابة في محاولة التجرد من الألم، فتحكي لنا بلغة مرهفة الأثر المهول الذي خلفه اغتيال قاتل مأجور لوالدها، وهي في الـ11 من عمرها.
اعتمدت المؤلفة على كتابة ذاتية صادقة ستصدم القارئ وتلمس قلبه من السطر الأول، فهي تفاجئ القارئ في أولى صفحاتها بإهداء الرواية إلى والدها، حتى إن لم يستطع قراءتها، وإلى أمها التي اضطرت أن تصبح أبا أيضا.
لا يرتبط الأمر فقط بالألم والهجران وكيفية تعاطي الإنسان معهما بكل الصور الممكنة، وإنما بصورة الأب والأم والأخ والعائلة ككل، وبأمور كثيرة ربما يظن المرء أنه يعرفها، لكنه لا يعرفها حق المعرفة.
بناء الوجه الأخير
تتحدر سارة كلينكرت من ميديين، مواليد 1979، عملت في الصحافة مع أغلب وسائل الإعلام الكولومبية الكبرى، وحصلت على درجة الماجستير في فن السرد من مدرسة الكتاب في مدريد، وتعد الرواية هي باكورة أعمالها، صدرت في 2020.
في الرواية، تحلم سارة دوما بالرصاصة التي تنهي حياتها، مثلما أنهت حياة والدها، فلا يزال يشق عليها تصديق أن 35 جراما من الصلب، وجراما واحدا من البارود تمكنت من القضاء على عائلة، وحلمها المتكرر بالرصاصة مرده كثرة تخيلها لها وهي تخترق جسد والدها، المحامي الذي لم يخسر أي قضية.
عقب كل وداع، يحاول الأحياء استذكار وجوه الأحياء، ولعل هذا حال الابنة الوحيدة بين أربعة ذكور، التي تتذكر والدها بعد أن رحل، تبذل جهدا كبيرا لتذكر من كان حيا ذات مرة، فتعيد بناء الوجه الأخير له مرات كثيرة جدا، إلى درجة أنها شكت أحيانا في أنه مجرد ابتكار داخل رأسها لكي يصبح لديها شخص تودعه، فأي رحيل لا يتضمن وداعا هو رحيل منقوص.
الأسى والألم
في حياة الروائية لحظة عصيبة في الطفولة، حينما سمعت أمها تقول لها إن والدها ذهب إلى السماء، من دون أن تقدم تفسيرات كثيرة حول كيف لرجل خرج صباحا ليعمل، أن ينتهي به المطاف وهو يذهب إلى السماء.
قالت شيئا ما عن اعتداء، أشارت إلى قاتل مأجور، إلى طلقة وشريان انساب منه الدم، وتروي سارة بكل ألم، بأن المرء يتأخر في الاعتياد على فكرة موت أبيه، لكنه ينجح في النهاية حين يأتي اليوم الذي يفتح فيه عينيه، ولا يجد يقينا سوى غيابه، ومع مرور الوقت، تحول أبوها إلى طيف، إلى شبح، إلى اسم، ولاحقا إلى مجرد ذكرى.
حضرت جنازته ألف مرة، وهي التي تمقت الجنازات، ينبغي أن يمنعوها، على حد تعبيرها، إنها أكثر المراحل المؤلمة في هذه المعادلة، وهذا لأن إدراك الواقع والتيقن منه يزداد مع انتهاء السبات الناجم عن صدمة النبأ الأولية، لا حاجة إلى كل هؤلاء القوم لتذكير المرء بمدى فظاعة الوضع، ولا إلى أن ينكأوا جراح المفجوعين، وهم يعرفون أنهم سيذهبون بعدئذ بهدوء إلى بيوتهم لمواصلة حياتهم الطبيعية، على النقيض من الألم الذي يبقى مع المرء، مع المرء وحده.
الكتاب منقذا
في تلك اللحظات السوداء، يود المرء أن يبقى بمفرده وأن يعانق ألمه، وأن يعتاد عليه، وأن يقبل أن هذا الألم سيبقى داخله طيلة حياته.
فجأة ذات مساء في أيار (مايو)، كبرت سارة 30 عاما مرة واحدة، إنه اليوم الذي اغتيل فيه أبوها، إنه أيضا اليوم نفسه الذي اكتشفت فيه أن الأمور لا تحدث بالضبط كما يخطط المرء لها.
كيف تجاوزت سارة كل هذا الأسى؟ تقول في روايتها إن الكتب هي الشيء الوحيد الذي تبقى لها، سلمت نفسها إليها بوصفها شخصا ليس لديه مكان آخر يلوذ إليه، وتروي "كنت أنفذ أمنيتي بقراءة كل الكتب الموجودة في العالم، لو أنني ذات مرة فكرت في الموت، فقد نبذت الفكرة بمجرد أن فكرت في أن الموتى لا يقرأون. كلما ازدادت قراءاتي، أدركت كل الكتب التي تنقصني، إنها مسألة لا تنتهي، سأحتاج إلى أن أولد ألف مرة أخرى، لكي أنجح في مسعاي، لقد أنقذت الكتب حياتي".
الأرملة بدور الرجل
حين ترملت الأم، اضطلعت من دون تردد بدور رجل البيت، وتربيتها لخمسة أبناء بمفردها ألقى فوق كاهلها بكمية هائلة من الأشياء التي يجب عليها فعلها، لا تظهر فزعها من أي شيء أبدا، حتى إن ارتعشت من الداخل، لا ينكسر صوتها أبدا، لم تنكسر إلا وهي محبوسة في غرفتها، لكيلا يدرك أبناؤها أن الشيء الوحيد الراسخ في حياتهم قد يضعف ذات مرة هو الآخر ويسقط على الأرض.
تجيد سارة وصف الحزن، لكن ما يعيب الرواية على امتداد أكثر من 200 صفحة، أنها تغرق في التفاصيل الحياتية اليومية، التي تأكل من صفحات الرواية أكلا، ولا تقدم في طياتها فكرة جوهرية.
في الرواية الكولومبية، التي ترجمها محمد الفولي لدار الخان للنشر والتوزيع، تقتل سارة والدها بالكلمات، لأنها سلاحها الوحيد، لأنها منهكة من محاولة إبقائه حيا في رأسها، ولكي يعيش في هذا الكتاب، وتكشف في نهاية الرواية أنها كتبتها بحبر لا ينمحي، لكيلا تزول، ولكيلا تندم على قولها، ولكيلا تنجح الرياح في اقتلاعها من على طرف لسانها، وقبل أن يقنعها الصمت بالاحتفاظ بها، وقبل أن تختنق بها حنجرتها، وقبل أن يدهمها الموت.
في مشهد سريالي أخير، وبعد أن قتلت والدها بالكلمات ودفنته في صفحات الكتاب، تختتم سارة خاراميو كلينكرت روايتها برسالة إلى والدها، "أحتاج إلى أن تموت مجددا، وتأكد من أنك ستموت في هذه المرة إلى الأبد".