جيفري هينتون يغادر «جوجل» ليحذر من أزمة وجودية
عندما كان لدى جيفري هينتون اعتراض أخلاقي على رب عمله "جوجل" لتعاونه مع الجيش الأمريكي في 2018، لم يشارك في الاحتجاجات العامة أو وضع اسمه على خطاب الشكوى المفتوح الذي وقع عليه أكثر من أربعة آلاف من زملائه.
بل اكتفى بالتحدث إلى سيرجي برين، الشريك المؤسس لشركة جوجل. وقال "إنه منزعج قليلا من ذلك أيضا. لذلك فإنهما لن يتابعا الأمر"، كما قال هينتون في مقابلة في ذلك الوقت.
إن الحادثة هي رمز للتأثير الهادئ لهينتون في عالم الذكاء الاصطناعي. إذ يحظى الأستاذ الذي يبلغ عمره 75 عاما بالاحترام باعتباره أحد "قادة" الذكاء الاصطناعي نظرا إلى عمله التأسيسي في التعلم العميق "تدريب الخلايا العصبية الصناعية على التنبؤ واتخاذ القرارات كما يفعل العقل البشري"، وهو مجال من مجالات الذكاء الاصطناعي دفع التقدم الهائل الذي يحدث في هذا القطاع.
لكن الحكاية تعكس أيضا ولاء هينتون، وفقا لمن يعرفونه جيدا. فمن حيث المبدأ، لم يتحدث مطلقا عن أي شكاوى مؤسسية أو أخلاقية أو غير ذلك علنا.
كان هذا المعتقد هو الذي دفعه إلى الاستقالة من منصب نائب الرئيس والزميل الهندسي في جوجل الأسبوع الماضي، حتى يتمكن من التحدث بحرية أكبر عن مخاوفه المتزايدة بشأن مخاطر الذكاء الاصطناعي على البشرية.
قال يوشوا بنجيو، معاونه وصديقه منذ فترة طويلة، الذي فاز بجائزة تورينج إلى جانب هينتون ويان ليكون في 2018، "إنه كان يتوقع استقالته". قال بينجيو "كان بإمكانه البقاء في جوجل والتحدث بصراحة، لكن إحساسه بالولاء كبير لدرجة أنه لم يكن ليفعل ذلك".
تأتي استقالة هينتون في أعقاب سلسلة من عمليات إطلاق الذكاء الاصطناعي الرائدة على مدار الأشهر الستة الماضية، بدءا من برنامج تشات جي بي تي التابع لشركة أوبن إيه آي المدعومة من مايكروسوفت في تشرين الثاني (نوفمبر)، وروبوت الدردشة بارد الخاص بشركة جوجل، في آذار (مارس).
أعرب هينتون عن مخاوفه من أن السباق بين مايكروسوفت وجوجل من شأنه أن يدفع تطوير الذكاء الاصطناعي إلى الأمام دون وجود حواجز وقواعد مناسبة.
قال في خطاب ألقاه في مناسبة نظمتها مجلة "إي إم تك ديجيتال" الأربعاء، بعد الإعلان عن استقالته "أعتقد أن جوجل كانت تتحلى بالمسؤولية للغاية في البداية. فعند قيام شركة أوبن إيه آي ببناء أشياء مشابهة باستخدام (...) الأموال من مايكروسوفت، وقررت الأخيرة طرحها للناس، لم يكن لدى جوجل كثير من الخيارات. إذا كنت ستعيش في نظام رأسمالي، فلا يمكنك منع جوجل من منافسة مايكروسوفت".
منذ سبعينيات القرن الماضي، كان هينتون رائدا في تطوير "الشبكات العصبية"، وهي تقنية تحاول تقليد كيفية عمل الدماغ. وهي الآن تدعم معظم أدوات ومنتجات الذكاء الاصطناعي التي نستخدمها اليوم، من جوجل ترانسليت وبارد إلى تشات جي بي تي والسيارات ذاتية القيادة.
لكن هذا الأسبوع، أقر بوجود مخاوف بشأن التطور السريع للذكاء الاصطناعي، الذي قد يؤدي إلى إغراق المجال العام بالمعلومات المضللة وانتزاع الذكاء الاصطناعي للوظائف البشرية بأعداد أكثر مما كان متوقعا.
قال هينتون "ما يقلقني هو أنه سيجعل الأغنياء أكثر غنى والفقراء أشد فقرا. وعندما تفعل ذلك (...) يصبح المجتمع أعنف. فهذه التكنولوجيا التي يفترض أن تكون رائعة (...) يتم تطويرها في مجتمع غير مصمم لاستخدامها لمصلحة الجميع".
حذر هينتون أيضا من التهديدات طويلة المدى التي تشكلها أنظمة الذكاء الاصطناعي على البشر إذا تم منح التكنولوجيا قدرا من الاستقلالية أكثر مما ينبغي. فقد كان يعتقد دائما أن هذا الخطر الوجودي بعيد، لكنه أعاد أخيرا ضبط تفكيره بشأن مدى الحاجة إليها.
قال "من المعقول للغاية أن تكون الإنسانية مرحلة عابرة في تطور الذكاء"، وأضاف أن "قرار هينتون ترك جوجل بعد عقد من الزمن كان مدفوعا من زميل أكاديمي له أقنعه بالتحدث علنا عن هذا الأمر".
ولد هينتون في لندن، ويتحدر من سلالة مشهورة من العلماء. فهو من أحفاد ماري وجورج بول عالمي الرياضيات البريطانيين، وقد اخترع جورج بول المنطق البوليني، وهي النظرية التي تقوم عليها الحوسبة الحديثة.
بصفته عالما في علم النفس المعرفي، كان عمل هينتون في الذكاء الاصطناعي يهدف إلى تقليد الذكاء البشري، ليس فقط لبناء تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بل لتوضيح طريقة عمل أدمغتنا.
قال ستيوارت راسل، أستاذ الذكاء الاصطناعي في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، وهو زميل أكاديمي لهينتون، "إن خلفيته تعني أنه ليس أذكى علماء الرياضيات الذين ستجدهم في مجتمع التعلم الآلي". وأشار إلى الاكتشاف الكبير الذي حققه هينتون في 1986، عندما نشر ورقة بحثية حول تقنية تسمى "الانتشار المرتد" أظهرت كيف يمكن لبرمجيات الكمبيوتر أن تتعلم بمرور الوقت.
قال راسل "من الواضح أنها ورقة أساسية. لكنه لم يستنبط (...) القاعدة بالطريقة التي قد يفعلها عالم الرياضيات. لقد استخدم حدسه لاكتشاف طريقة من شأنها أن تنجح".
لم يعبر هينتون علنا عن آرائه الأخلاقية دائما ولكنه كان صريحا في السر.
في 1987، عندما كان أستاذا مشاركا في جامعة كارنيجي ميلون في الولايات المتحدة، قرر ترك منصبه والهجرة إلى كندا.
كان أحد الأسباب التي قدمها، وفقا لبنجيو، أخلاقيا، فقد كان قلقا بشأن استخدام التكنولوجيا، تحديدا الذكاء الاصطناعي في الحروب وكان كثير من تمويله يأتي من الجيش الأمريكي.
قال بينجيو "لقد أراد أن يشعر بالرضا عن التمويل الذي حصل عليه والعمل الذي كان يقوم به. نحن الاثنان نتشارك القيم المتعلقة بالمجتمع. أن البشر مهمون، وأن كرامة جميع البشر أساسية. وينبغي أن يستفيد الجميع من التقدم الذي يصنعه العلم".
في 2012، حقق هينتون وطالباه الخريجان في جامعة تورنتو -بمن فيهم إيليا سوتسكيفر، وهو الآن أحد مؤسسي شركة أوبن إيه آي- تقدما كبيرا في مجال الرؤية الحاسوبية. وقاموا ببناء شبكات عصبية حاسوبية يمكنها التعرف على العناصر في الصور بأحجام أدق بأضعاف ما كان ممكنا من قبل. وبناء على هذا العمل، أسسوا أول شركة ناشئة لهم، وهي دي إن إن ريسيرتش.
تم بيع شركتهم -التي لم تصنع أي منتجات- لشركة جوجل مقابل 44 مليون دولار في 2013، بعد مزاد تنافسي أدى إلى تقديم عروض شركة بايدو الصينية ومايكروسوفت وديب مايند للاستحواذ على خبرة الثلاثي.
منذ ذلك الحين، أمضى هينتون نصف وقته في جوجل والنصف الآخر كأستاذ في جامعة تورونتو.
وفقا لراسل، يأتي هينتون باستمرار بأفكار جديدة ويجرب أشياء جديدة. "في كل مرة تكون لديه فكرة جديدة، يقول في نهاية حديثه "وهذه هي الطريقة التي يعمل بها الدماغ"!
عندما سئل علنا عما إذا كان يأسف على عمله في حياته، نظرا لأنه قد يسهم في الأضرار التي لا تعد ولا تحصى التي أوضحها، قال هينتون "إنه كان يفكر في الأمر".
"لم تكن هذه المرحلة من الذكاء الاصطناعي متوقعة. وحتى وقت قريب جدا كنت أعتقد أن هذه الأزمة الوجودية كانت بعيدة. لذلك أنا لست نادما حقاً على ما أفعله".