الاقتصاد الرمادي يتوسع .. التشدد المالي دافع لبقاء الشركات في «الظل»
اقتصاد الظل، الاقتصاد الأسود، الاقتصاد الرمادي، الاقتصاد غير الرسمي، الاقتصاد السري، كلها تعابير ومصطلحات تستخدم لوصف الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية، وجميعها مصطلحات توجد في الأذهان تصورات بأننا نتحدث عن عصابات مخدرات أو مافيا تهريب سلاح أو حتى اتجار بالبشر، لكن في الواقع، فإن المصطلح له نطاق أوسع بكثير من ذلك، إذ يشير عادة إلى أي نشاط اقتصادي -حتى ولو كان شرعيا وقانونيا- لكن لا يتم إبلاغ السلطات عنه، وبالتالي لا يخضع للضرائب.
ومن ثم فمعظم الشركات العاملة في الاقتصاد الرمادي ليست بالضرورة مؤسسات إجرامية، بل إن الأغلبية العظمى منها تقوم بإنتاج سلع تنتجها الشركات "الرسمية"، لكنهم بالتعريف لا يدفعون الضرائب.
وعلى سبيل المثال أنشطة التشييد والبناء والمقاولات غير المرخص بها أو عمليات البيع غير القانوني من قبل بائعي المواد الغذائية تدخل ضمن فئة الاقتصاد الرمادي أو اقتصادات الظل، بل إن بعض الأنشطة "الرسمية" التي يقوم أصحابها بتلقي جزء من العوائد بشكل قانوني ورسمي يسجل في الدفاتر والسجلات الرسمية للشركة، ومن ثم يتم دفع الضرائب عنه، بينما جزء آخر من ذات النشاط يتم دفع مستحقاته المالية من "تحت الطاولة" يجعلنا أمام خليط من الاقتصاد الرسمي المشروع واقتصاد الظل في آن واحد.
طبيعة الاقتصاد الرمادي والسرية المحيطة به وغياب الشفافية وتفادي وجود أي وثائق لتسجيل المدفوعات المتعلقة به، تجعل من الصعب وجود تقديرات أو إحصاءات قاطعة بشأن نسبة اقتصاد الظل من الناتج المحلي الإجمالي، مع هذا، فإن أغلب الدراسات تؤكد نمو هذا القطاع كنسبة من الاقتصاد الكلي على المستوى الدولي وفي جميع بلدان العالم بلا استثناء تقريبا.
من جانبه، قال لـ"الاقتصادية" البروفيسور كريس تيرا، رئيس قسم الاقتصاد سابقا في جامعة جلاسكو والاستشاري في الأمم المتحدة "عادة لا يعد طهي الطعام لعائلتك أو توصيل أطفال جيرانك إلى المدرسة نشاطا اقتصاديا من الأنشطة السرية، لكن إذا كان يتم بمقابل مالي ولا يتم إبلاغ الجهات الرسمية عما تتقاضاه ولا يدفع عنه الضرائب الواجبة، فإنه يدخل ضمن أنشطة اقتصاد الظل، وكذلك الأشخاص الذين يعملون لحسابهم الخاص دون إبلاغ السلطات بحجم العوائد المالية المحققة. ومن ثم، فإن الاقتصاد السري يشمل أي عمل مدفوع الأجر أو معاملة لا يتم إبلاغ الحكومة عنها وبالتالي لا تخضع للضريبة".
وأضاف حول حجم هذا الاقتصاد "تختلف التقديرات على نطاق واسع، البعض يضع الاقتصاد السري أو اقتصاد الظل عند 11 أو 12 في المائة من الناتج الإجمالي في الولايات المتحدة أي ما يقارب ثلاثة تريليونات دولار، وفي أمريكا الجنوبية يراوح بين 25 و60 في المائة، وفي آسيا بين 13 و50 في المائة، وبين أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أو ما يسمى بالدول الغنية يكون متوسط حجم اقتصاد الظل أصغر، حيث يبلغ 15 في المائة، لكن في بعض البلدان الأوروبية خاصة شرق أوروبا يصل إلى 30 في المائة، وبعض التقديرات الحديثة تشير إلى أن القطاع غير الرسمي يمثل حاليا ثلث النشاط الاقتصادي في الأسواق الناشئة".
وتقدر منظمة العمل الدولية أن ما لا يقل عن ملياري عامل فوق سن 15 عاما أو نحو 60 في المائة من القوة العاملة العالمية يقضون بعض الوقت للعمل في القطاع الرمادي، ويزدهر هذا النوع من الاقتصاد في أوقات الأزمات الاقتصادية والانكماش الاقتصادي، حيث يتحول كثير من الفئات المشاركة في العملية الاقتصادية خاصة الفئات العاملة غير قادرة على الحصول على أعمال رسمية إلى أعمال تدر عوائد نقدية مباشرة، ولا يتم غالبا إبلاغ المؤسسات الضريبية عن تلك العوائد، كما يزداد قطاع اقتصاد الظل في البلدان، التي تعاني ضعف الكفاءة الحكومية في تحصيل العوائد الضريبية أو الحواجز التنظيمية المعقدة، ما يؤدي إلى تضخم اقتصاد الظل كنسبة من الاقتصاد الإجمالي.
ويعتقد بعض الخبراء أن كثيرا من الشركات العاملة ضمن الاقتصاد الرمادي تعاني إمكانية الوصول إلى الأسواق الائتمانية، ما يقيد قدرتها على النمو، وبذلك تؤدي عمليا إلى إبطاء النمو الاقتصادي، فأصحاب تلك الشركات يتقاضون جزءا من المقابل المالي لأنشطتهم في شكل نقود مباشرة لا تسجل في الحسابات الخاصة بشركاتهم، ومن ثم تكون قدرتهم المالية الحقيقية أعلى مما هو مسجل في الأوراق والدفاتر الرسمية، وبينما ينجحون بذلك في تفادي دفع الضرائب الواجبة، فإن ذلك يضعف جداراتهم المالية أمام البنوك عند سعيهم للحصول على قرض لتطوير أو توسيع أنشطتهم.
من جانبه، أوضح أريك ماثيو، الخبير الضريب البريطاني، أن الاقتصاد الرمادي لا يعوق فقط نمو الاقتصاد الكلي ويضعف القطاع المالي نتيجة عدم قدرة الشركات العاملة في هذا القطاع في الاعتماد على النظام المصرفي لتوسيع أنشطتها الاقتصادية، وإنما يترك بصمات سلبية على إجمالي الإيرادات الحكومية المتحصلة من الضرائب ومن ثم يزيد من معدل العجز في الميزانية العامة.
وتابع لـ"الاقتصادية" أن "اقتصاد الظل إحدى الوسائل السائدة للتحايل على اللوائح الحكومية المنظمة للنشاط الاقتصادي، وغالبا لا يتلقى العمال في هذا القطاع تأمينا صحيا أو مزايا لتعويض العمال، ولديهم حماية قانونية أقل، ولا يساهمون في مزايا الضمان الاجتماعي المستقبلية".
وأضاف أنه بحسب دراسة للبنك الدولي بشأن الاقتصاد الرمادي، وجد أن البلدان ذات المعدلات الضريبية المنخفضة نسبيا، والقوانين واللوائح الأقل تعقيدا، وحكم القانون الراسخ يتقلص لديها اقتصادات الظل.
مع هذا، فإن بعض الخبراء يشيرون إلى أن الاسم الذي يطلق على هذا القطاع يشوه في حقيقة الأمر كثيرا من الجوانب الإيجابية المتعلقة به خاصة في الاقتصادات الناشئة، فعلى سبيل المثال يؤدي النقل السريع واسع النطاق للأموال من القطاع "غير الرسمي" إلى القطاع الرسمي في الأسواق الصاعدة على وجه التحديد، إلى إكساب تلك الاقتصادات مرونة في مواجهة الصدمات الاقتصادية، وعلى الرغم من أن العمال في هذا القطاع "خاصة إذا كانوا من المهاجرين" يتقاضون عادة أجورا أقل من نظرائهم المعينين رسميا، فإن اقتصاد الظل يميل أن يكون أكثر ديناميكية وتنافسية، ويسمح باستيعاب الزيادة الحادثة في سوق العمل عندما يكون الاقتصاد الرسمي غير قادر على استيعابها.
كما يشير بعضهم أيضا إلى أن معظم الأجور المدفوعة "تحت الطاولة" تنفق على السلع الاستهلاكية أو الخدمات، وبالتالي تضخ مرة أخرى في الناتج المحلي الإجمالي.
من ناحيته، ذكرت لـ"الاقتصادية" الدكتورة فريا تشارلي أستاذة المشاريع الصغيرة في جامعة لندن، أن "المشاريع متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة تشكل الجزء الأكبر من الاقتصاد غير الرسمي، وتمثل شكلا مرنا للغاية من التوظيف القادر على توفير فرص العمل لأجزاء كبيرة من السكان، خاصة عندما تكون معدلات البطالة الرسمية مرتفعة، وفي بلد مثل باكستان، حيث يمثل الاقتصاد الرمادي 70 في المائة من إجمالي العمالة، فإن ذلك ساعد البلاد على التعافي السريع من التداعيات السلبية لجائحة كورونا".
وأضافت أن "الحكومات يمكنها أن تستغل هذا القطاع لإحداث نهضة مالية في القدرة الائتمانية للبنوك، فعلى سبيل المثال يواجه ما يقرب من 40 في المائة من الشركات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة في جميع أنحاء العالم أي ما يقارب 65 مليون شركة حول العالم فجوة ائتمانية سنوية تراكمية قدرها 5.2 تريليون دولار، وفقا لمؤسسة التمويل الدولية، ما يعني وجود فرص كبيرة واعدة للإقراض أمام البنوك للشركات العاملة في قطاع الاقتصاد غير الرسمي في الأسواق الناشئة تحديدا".
ويعتقد بعضهم أن الاستيعاب الاقتصادي المتزايد للتقنيات الحديثة يمكن أن يشجع في إضفاء الطابع الرسمي على الاقتصاد غير الرسمي عبر زيادة الشمول المالي، فالتكنولوجيا المستخدمة في القطاع المالي تساعد على تحسين قدرة الشركات التي تقع ضمن دائرة الاقتصاد الرمادي في الوصول إلى التمويل الضروري خاصة في الأسواق الناشئة.
فجائحة كوفيد كشفت إلى حد كبير أهمية وضخامة التحويلات غير الرسمية التي يتم إجراؤها على المستوى العالمي، ففي إفريقيا بمفردها نمت التحويلات إلى القارة السمراء 2020 بنحو 80 مليار دولار، خاصة مع زيادة المنصات الوسيطة التي تدعم تدفق هذه الأموال بما يساهم في انتعاش الأعمال المحلية.
بدوره، ذكر جاكسون بروك، نائب رئيس وحدة الأبحاث في الاتحاد الدولي للمصارف، أن تعزيز الشمول المالي يساعد الشركات المتناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة في تأمين الأموال اللازمة لإضفاء الطابع الرسمي على أنشطتها عن طريق الاقتراض، سواء من البنوك أو ما يعرف من نظير إلى نظير دون فوائد.
وقال بروك لـ"الاقتصادية" إن "ما يعرف بالتشدد المالي أي عدم تساهل البنوك في توسيع نطاق قدرتها الإقراضية لتصل إلى الشركات متناهية الصغر والصغيرة، يدفع بعديد من أصحاب تلك الشركات أو المشاريع إلى العمل خارج الأطر الرسمية، فصعوبة الوصول إلى أسواق الائتمان الرئيسة يوسع قطاع اقتصاد الظل، وقد لاحظت دراسات حديثة أن عدم القدرة على وصول تلك الشركات للأسواق الائتمانية جعلها تقصر نشاطها على الأسواق المحلية ونادرا ما توسع أعمالها، وهذه الشركات ستترك اقتصاد الظل في نهاية المطاف إذا كان لديها إمكانية الوصول إلى الموارد المالية الرئيسة".
باختصار تساعد التكنولوجيا المالية الحديثة على إضعاف حوافز التهرب الضريبي، ولا يوجد في البلدان المتقدمة كثير من الحوافز التي تدفع الشركات للدخول إلى اقتصاد الظل، بعكس الوضع في البلدان النامية، حيث هناك رغبة أكبر في التهرب من الضرائب، لأن الوصول إلى سوق الائتمان محدود، سواء لمحدودية المعروض من الأموال أو ارتفاع تكلفة الاقتراض، وبالتالي فإن الضمانات المطلوبة للحصول على قرض أعلى من تلك الموجودة في البلدان ذات القطاع المالي المتطور، وفي البلدان النامية والفقيرة تجد كثيرا من الشركات المقترضة نفسها معرضة لخطر تلقي ضرائب أعلى عندما تعلن أصولها، ما يجعلها تفضل البقاء في الظل دائما.