رواية "ملحمة رأس الكلب" .. خيال برسم الفانتازيا

رواية "ملحمة رأس الكلب" .. خيال برسم الفانتازيا
الروائي محمد أبو زيد.
رواية "ملحمة رأس الكلب" .. خيال برسم الفانتازيا
في حارة السماء تتكشف تدريجيا الطبيعة الشعرية لشخصية الرجل برأس الكلب.

يبقى البحث في الأسئلة الفلسفية والغوص في متاهة الحياة والأسباب الكامنة خلف المشكلات التي نواجهها من أكثر الأسئلة التي تؤرق الكتاب والروائيين، وتأخذهم إلى عالم لا متناه من التخيلات، يجسدون بشخصياتهم الوهمية قراءتهم للمتغيرات المحيطة بنا والمشكلات التي تعتري وجودنا كل يوم. وفي رواية "ملحمة رأس الكلب" للروائي المصري محمد أبو زيد الصادرة عن دار الشروق للنشر، هناك حكاية تدور فصولها بين أزقة مدينة سوريالية ملعونة بسؤال التيه، حيث يجمع بين أبطالها الثلاثة غرابة فيها من السحر بقدر ما فيها من الواقع، وسط مدينة تفترش شوارعها الحياة العصرية التي تفصلنا عن واقعنا في أحيان كثيرة.
محمد أبو زيد الذي ترجمت أعماله وقصائده إلى عديد من اللغات منها الفرنسية والإسبانية والبرتغالية، يعزز حضور الوهم في إصداره الجديد، ويأخذنا في رحلة عبر السحر والخيال لنطرح أسئلة جديدة في عالم يتطور كل يوم، فنكون غرباء فيه عن كل ما يحيط بنا وحتى عن أنفسنا، وكأنه يطرح الأسئلة ليترك لأذهاننا عملية البحث عن إجابات وتفسيرات، إنها رواية تسألك في صمتك "ما الشيء الأكثر إدهاشا في العالم؟

الحبكة
"ملحمة رأس الكلب"، رواية لا تشبه غيرها من الروايات، تجمع شيئا من كل شيء، بين الواقع والفانتازيا والخيال، بين السحر والأوهام، وتدور أحداثها حول شخصية بطلتيها، "لبنى" و"دو"، تكملهما شخصية ثالثة نتطرق إليها لاحقا، ليشكلوا معا الثلاثية المحورية التي تدور الأحداث ضمن فلكها.
لبنى ودو صديقتان في مرحلة الشباب، تكتشفان العالم معا، وتدخلان تجربة الحياة بعفوية، تتحركان في منطقة وسط المدينة، بشوارعها ومقاهيها وممراتها السرية، ويقابلهما العالم بمفاجآته وقصصه المتلاحقة، ويعرفهما إلى شخصيات وأماكن فيها من غموض وغرائبية ما يثرى تجربتهما الشابة، فتعيشان رحلة فيها كثير من التفاصيل في مدينة يتم مسخ رؤوس أهلها، حيث يتم تبديل رؤوس بعض من سكانها برأس زرافة أو قطة أو كلب، مدينة يكابد سكانها قسوتها. وإزاء هذا المصير الإنساني وبموازاة هذه المدينة وسردية الرواية، ينكشف عالم الحياة المعاصرة، حيث الشوارع والمقاهي ومحطات المواصلات ومنصات "تيك توك"، كلها عوالم مقنعة، ووجوه مستعارة، تجمع بين أبطالها الوحدة، وإن بهوية مفقودة.

جسد رجل ورأس كلب
تصادف بطلتا الرواية لبنى ودو رجلا له جسد بشري لكنه برأس كلب. ويشكل الثلاثي المحرك الأساسي للحبكة، حيث يواجه بطل الرواية اختبارا مصيريا بعد انتزاعه من عالم البشر إلى عالم ممسوخ يدفعه للبحث في تاريخه عن سبب منطقي لهذا المصير. يطل البطل برأس كلب مرتديا بنطال جينز أزرق وقميصا أبيض بياقة زرقاء، وحزاما أسود، وتجمعه بدو التي تتعاطف معه قصة حب غريبة، وتتوحد معه بالسؤال عن مصيره.
يكابد البطل أزمة هوية حادة بعد فشله في محاولات الاندماج مع المجتمع المحيط به، فهو لا يعرف إذا كان يجب أن يتجه بشكواه إلى طبيب بشري أم بيطري؟ هل يحسب عمره بأعوام عمر الكلاب القصيرة؟ "لا أعرف هل أنا بعقل كلب وقلب إنسان، هل أنا إنسان كامل أم كلب كامل؟ لا أعرف". يزور «عم بركات»، وهو الحلاق الذي اعتاد الذهاب إليه طيلة حياته، فما إن يجلس على الكرسي حتى يرميه الحلاق بحجر ويضربه ككلب ضال. يضطر طيلة الوقت لارتداء ما يغطي به رأسه، لإخفاء وجهه وأذن الكلب التي تلتصق به وهو يسير في الشارع.
أما دو فهي العاشقة الحالمة التي لم تتردد في تدوين أسماء عشاق خياليين في دفتر مذكراتها الأزرق، عاشت معهم قصصا مختلفة، بادلتهم مشاعر من طرف واحد، رجالا مروا في حياتها دون أن يعرفوا ذلك، وتشمل قائمتها سائقي حافلات، وبائعي سوبر ماركت، وركاب حافلة عابرين، جميعهم كانت تضيفهم في دفترها الأزرق كعشاق أحبتهم في خيالها، وكانت تتشارك سر قصص حبها الخيالية مع لبنى صديقتها الوحيدة التي بدورها لم تفقد يوما حلمها بأن تصير ساحرة تقليدية تطير فوق مكنسة بعدما تتمتم بتعويذة، وتسعى إلى استدعاء طاقاتها السحرية لإعادة رأس البطل الحقيقي له من جديد. فتبدو رحلة الثلاثة أقرب لمغامرة خرافية، بحثا عن تبادل التعاطف والإيمان بالمعجزات في عالم مترع بقسوة البشر وأحكامهم العنيفة.

المدينة وحياتنا المعاصرة
يضع الكاتب الروائي محمد أبو زيد في روايته "ملحمة رأس الكلب" المدينة في موازاة سردية مع تقنيات الحياة المعاصرة، حيث الشوارع والمقاهي ومحطات "الأتوبيس" ومنصات الـ"تيك توك"، عوالم مقنعة، يبحث الكاتب في حقيقة وجوهها المستعارة، عبر أبطاله الذين تجمعهم الوحدة، والهوية المفقودة، مستعينا بالفانتازيا أداة لإعادة ترتيب العالم الذي يبدو في الرواية مبعثرا بين أصوات تائهة لثلاثة رواة رئيسين، وفي الخلفية أصوات فرعية تشارك في إعادة بناء المدينة المتخيلة، حيث يبرز "نباح" الكلاب و"مواء" القطط كأصوات سردية يقوم الكاتب بتوظيفها في الرواية كأصحاب حقوق يكابدون قسوة أهالي المدينة.

حارة السماء
حارة السماء أحد شوارع وسط مدينة القاهرة التقليدية التي تدور فيها أحداث الرواية، يشهد مغامرة حالمة بين دو ورأس الكلب، حيث يمران بين أشجار الصفصاف ويصلان إلى سيدة البحر، ويمتطيان خيولا ملونة تماما كما في الأحلام، ما يجعل دو تشعر بأنها في أحد أطوار "أليس في بلاد العجائب" التي تسقط في حفرة فيتبدل مصيرها.
وفي حارة السماء تتكشف تدريجيا الطبيعة الشعرية لشخصية الرجل برأس الكلب، حيث يستدل على أشباهه، فبها يلتقي بمن هو برأس ذئب، وآخر بذيل تمساح، وأحدب نوتردام، ودكتور جيكل ومستر هايد، و"زومبي"، وكثير ممن تعثروا في الحياة بعد أن فقدوا ذواتهم وصاروا مسخا.

لعنة الحب والموت
بين هذه المتاهات الغريبة، تصاب دو بلعنة الحب وتقع في غرام الرجل برأس الكلب، وتسانده في تفاصيل حياته الملعونة، قد لا يكون حبا صادقا بقدر ما هو نوع من التعاطف مع شخص أصابته لعنة عمر الكلاب القصيرة وشيخوختها المبكرة، واقتراب موته، فتبحث عن طرق بسيطة تشاركه بها أيامه الأخيرة وتحقق له واحدة من كبرى أمنياته، وهي زيارة مدينة الملاهي، التي يتسللان لها في قلب الليل.
أيضا الرجل برأس الكلب أصابته لعنة الموت حين مات والده فجأة بسبب نكتة قرأها في كتاب "مائة نكتة ونكتة"، فتصير لعنة موته مرتبطة بكثرة الضحك "ضحكة كبيرة طويلة لا تنتهي، ضحكة تحولت في النهاية إلى بكاء ونحيب ونشيج ونواح وعويل، سقط وجهه في بركة من دموعه ومخاطه ولعابه وعيناه تحدقان برعب في شيء مجهول".
طرح أبو زيد في هذه الرواية عديدا من الأسئلة والأفكار وأدخلنا متاهة البحث عن إجابات. هل هي الأحداث الكبيرة، أم التفاصيل الصغيرة، والمفاجآت، والقصص التي تسلم بعضها بعضا، أم هذا كله وأشياء أخرى، هو ما يصنع الدهشة، والحياة نفسها؟ أم تراهما لبنى ودو الشخصيتان اللتان تفردتا بخصوصيتهما وسط صومعة من الفضاء الإلكتروني، ففشلتا في الحصول على تفسيرات مرضية؟

سمات

الأكثر قراءة