تقييم نبوغ الدول بين منظومتين

إذا كان هناك من ابتكار اجتماعي مهم أثر في العالم بأسره، أو بالأحرى في حياة الإنسان في هذا العالم، فإن هذا الابتكار يتمثل في مفهوم الدولة، وفي خدماتها والعلاقة بينها وبين مواطنيها من جهة، وبينها وبين دول العالم الأخرى، تعاونا وتنافسا، من جهة أخرى. وتبدو الدولة على مسرح العالم وكأنها كائن حي، من خلال ما تقوم به من نشاطات وأعمال في الداخل والخارج، لكنها ليست كذلك بالفعل، فالحياة فيها، والحيوية في أعمالها ترتبطان بالإنسان الحي الذي ينتمي إليها، ويعمل فيها، ويدير شؤونها، ويوجه مسيرتها نحو المستقبل. وعلى ذلك، فإذا قلنا نبوغ الدول، فهذا يعني نبوغ الإنسان فيها، بما يحتاج إليه هذا النبوغ من بيئة ممكنة، وثقافة محفزة، وما يقدمه من معطيات تفعل التنمية وتعزز استدامتها، وتضع الدولة المعنية في المكانة التي تناسب إمكاناتها وعطاءها بين الأمم.
يسعى كثير من المؤسسات الدولية العامة منها، أي المرتبطة بالأمم المتحدة، كالبنك الدولي، والخاصة المستقلة، كالمنتدى الاقتصادي الدولي، إلى تقييم إمكانات الدول، وإلى تصنيفها تبعا لهذه الإمكانات. ويتم ذلك عبر مؤشرات وأدلة تقيس هذه الإمكانات، بما يشمل صفاتها الكمية وخصائصها النوعية. وتتداول مؤسسات دولية أخرى مثل هذه المؤشرات والأدلة وتضعها في مجموعات تبعا لموضوعاتها لتقوم، من خلال ذلك، بتقييم شامل لقضايا مختلفة مثل الابتكار والنبوغ في الدول المختلفة. ومن المؤسسات التي اهتمت باستخدام ما هو متوافر من مؤشرات وأدلة دولية من أجل تقييم نبوغ الدول، كل من المعهد الدولي من أجل التنمية الإدارية، وكليات إنسياد للإدارة، وهما مؤسستان عريقتان وشهيرتان في عالم الإدارة والأعمال حول العالم.
تأسس المعهد الدولي من أجل التنمية الإدارية في سويسرا 1990 من اندماج مؤسستين تهتمان بشؤون الإدارة، إحداهما تعود بداياتها إلى 1946. ويمتد هذا المعهد حول العالم، ويقدم درجات علمية في الإدارة، ودورات خاصة في موضوعاتها، إضافة إلى استشارات مختلفة، كما أن لديه حاليا برامج يتم تنفيذها عبر الفضاء السيبراني. وتتشابه كليات إنسياد مع هذا المعهد في مختلف نشاطاتها، وقد بدأت في فرنسا 1957، وتنتشر حاليا أيضا حول العالم.
أصدر المعهد الدولي من أجل التنمية الإدارية 2022 تقريره الدوري حول تقييم نبوغ دول العالم، شمل 63 دولة، واعتمد على منظومة من المؤشرات شملت 31 مؤشرا تعود مصادرها إلى مؤسسات دولية مختلفة، كما تضمن تصنيفا لهذه الدول على أساس هذا التقييم. وأصدرت كليات إنسياد، في العام ذاته أيضا، تقريرا دوريا مماثلا اهتم بتقييم تنافسية النبوغ في 133 دولة، واعتمد على منظومة من المؤشرات شملت 69 مؤشرا مختارا من مؤسسات دولية مختلفة، وقام أيضا بتصنيف الدول على أساس هذا التقييم.
تضمنت منظومة مؤشرات المعهد الدولي لتقييم نبوغ الدول ثلاثة أبعاد رئيسة. يتمثل البعد الأول منها بما تقوم به الدولة من استثمار وتنمية في رعاية الناشئة وتأهيلهم، وتعزيز قدراتهم، وإبراز مواهبهم وإظهار نبوغهم. ويرتكز البعد الثاني إلى خصائص تعبر عن "جاذبية " الدولة، من حيث توافر البيئة المناسبة لنمو القدرات والمواهب وبناء النبوغ. ثم يتجلى البعد الثالث في مدى "جاهزية" الدولة، بمعنى مستوى قدرتها على تفعيل قدرات الموهبة والنبوغ. وقد تحدثنا عن مضامين هذه الأبعاد ومؤشراتها في مقال نشر على هذه الصفحة الخميس 25 كانون الثاني (يناير) 2023.
شملت منظومة مؤشرات كليات إنسياد لتقييم تنافسية النبوغ ستة أبعاد رئيسة. أول هذه الأبعاد هو بعد التمكين الذي شمل ثلاث باقات من المؤشرات، إحداهما في المشهد التنظيمي للدولة المؤثر في بيئة العمل فيها، وأخرى في مشهد السوق والنشاطات الاقتصادية والبحث والتطوير في ربوعها، وثالثة في مشهد العمل والعمالة، بما في ذلك الإنتاجية والأجور والإدارة المهنية. أما البعد الثاني لمنظومة المؤشرات هذه فهو في موضوع الجاذبية الذي تضمن باقتين من المؤشرات، باقة في الانفتاح الخارجي والتواصل مع العالم، وأخرى في الانفتاح والتوافق الداخلي، بما يشمل التمكين الاقتصادي للمرأة.
طرح البعد الثالث، لمنظومة مؤشرات تنافسية نبوغ الدول، موضوع النمو الذي تضمن ثلاث باقات من المؤشرات. اهتمت الباقة الأولى لهذا البعد بالتعليم النظامي في مراحله المختلفة، وركزت الباقة الثانية على موضوع التعلم مدى الحياة وانتشار نشاطات التعليم والتدريب المختلفة، بما في ذلك التدريب في المؤسسات، ثم ركزت الباقة الثالثة على النفاذ إلى فرص النمو، ومسألة استيعاب الشباب، والاستفادة من شبكات التواصل بشقيها الاجتماعي والمهني. وركز البعد الرابع، بعد ذلك، على مسألة الحفظ أو المحافظة التي شملت باقتين من المؤشرات. باقة اهتمت بالاستدامة والحماية الاجتماعية والأداء البيئي، إلى جانب المحافظة على أصحاب العقول المتميزة. ثم باقة أخرى طرحت جانب أسلوب الحياة، والحقوق الشخصية، وبعض الخدمات ذات العلاقة.
تضمن البعد الخامس المهارات الفنية والمهنية، واستند إلى باقتين من المؤشرات، إحداهما في مهارات المستوى المتوسط التي تهتم بمستويي التأهيل الثانوي وتأهيل التقنيين المساعدين، وإنتاجية العمل، والثانية في القابلية للتوظيف وإيجاد المهارات المناسبة، والتوافق بين التعليم ومتطلبات سوق العمل. وجاء البعد السادس أخيرا ليطرح موضوع مهارات المعرفة العالمية، الذي تضمن باقتين من المؤشرات هما، باقة المهارات المتقدمة التي اهتمت بشؤون عمل خريجي التعليم العالي، وباقة أثر النبوغ في زيادة مخرجات المعرفة والابتكار، والصادرات مرتفعة القيمة، وفي نمو أعداد مؤسسات الأعمال.
ولعلنا نتساءل، بعد ما تقدم، هل نجحت منظومتا تقييم نبوغ الدول السابقتان في تقييم هذا النبوغ فعلا؟ الإجابة الأولى نجدها في اختلاف المنظومتين، فمدى هذا الاختلاف يزيد على مدى الاتفاق بينهما. ويشمل ذلك الهيكلية العامة، والمؤشرات المختارة، وكذلك النتائج المعطاة. ولعل الإجابة الثانية ترى أن علينا أن نفكر في تقييم جديد لنبوغ الدول يطرح مفاهيم أعمق استيعابا، وأوسع شمولية، وأوثق اقترابا من الإنسان وثقافته وتوجهاته، من أجل استجابة أفضل لمتطلبات مسيرة المستقبل، واحتياجات النبوغ فيها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي