«تأثير الدونات» يغير تركيبة المدن الأمريكية
قصة المدن الأمريكية المضطربة التي تركت مع مباني المكاتب الخالية بعد الجائحة معروفة جيدا. الأمر غير المفهوم تماما هو أن هذه قصة مدينتين حقا: وسط المدينة وكل مكان آخر. فبينما يكافح عديد من الأحياء التجارية التي توجد فيها الشركات، غالبا ما تزدهر حلقاتها الخارجية الحضرية. أطلق ذلك "تأثير الدونات".
أظهر الأكاديميان أرجون راماني ونيكولاس بلوم - اللذان سميا هذه الظاهرة في ورقة عمل حديثة للمكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية، تحمل العنوان نفسه، أن أغلبية الأشخاص الذين يغادرون مراكز المدن لا ينتقلون بعيدا. يتجهون في الغالب إلى الضواحي والمناطق شبه الريفية التابعة للمناطق الحضرية التي يقيمون فيها بالفعل. نيويورك مثال جيد على ذلك: تظهر خريطة ملونة في ورقة المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية حركة انتقال بعيدا عن مانهاتن باتجاه الأحياء الخارجية ولونج آيلاند.
حتى لو كان "تأثير الدونات" أقوى ما يكون في المدن الكبيرة مثل نيويورك وسان فرانسيسكو، يمكنك رؤيته أيضا في مدن أخرى مثل شيكاغو التي لديها بعض أوجه التشابه المزعجة مع مدينة "الدونات" الأصلية ديترويت. فلعقود ظلت المباني الجميلة في وسط مدينة ديترويت التي شيدت في أواخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20 شبه فارغة، ذلك بفضل مزيج من العنصرية، وفقدان هيمنة صناعة السيارات الأمريكية، وتزايد الجريمة والعنف، وانتقال البيض إلى الحلقات الخارجية من المدينة.
تعافى وسط مدينة ديترويت إلى حد ما في الأعوام الأخيرة، ويعود ذلك جزئيا إلى جهود رواد الأعمال كدان جيلبرت مؤسس شركة كويكن لونز، في تجديد المباني التجارية القديمة وتحويلها إلى أماكن معيشة واسعة ومفتوحة واستقطاب شركات جديدة، إضافة إلى المتاجر والمطاعم والفنادق التي تجذب العمال الشباب. لكن عدم وجود نظام مواصلات يعمل بشكل جيد يجعل من الصعب إعادة بناء وسط المدينة على نطاق واسع.
هذا أحد الدروس العديدة التي تقدمها ديترويت لمدن "الدونات" الحديثة: وقت التنقل اليومي مهم، خاصة في عصر ما بعد كوفيد الذي يظل فيه العمل في المكتب كل يوم خيارا وليس مطلبا بالنسبة إلى كثيرين. تشير تريسي هادن لو، وهي زميلة في معهد بروكينجز مختصة في العقارات التجارية والبنية التحتية والعدالة العرقية والحوكمة، إلى أنه بينما لا يزال البحث في أي المدن هي التي فشلت أو ازدهرت بعد الجائحة وليدا، يبدو أن أحد المتغيرات المهمة هو سهولة التنقل. قد يكون هذا أحد الأسباب التي تجعل وسط مدينتي لندن وباريس يبدو نابضا بالحياة مقارنة بعديد من المدن الأمريكية.
ليس من المستغرب بالنسبة إلي أن مكانا مثل نيويورك، فيه نظام نقل عام يعمل بشكل جيد نسبيا "وإن كان متراجعا"، لديه نشاط اقتصادي في وسط المدينة "وفقا لقياس استخدام الهاتف الخلوي" أكبر من شيكاغو أو لوس أنجلوس، حيث تشتهر هاتان المدينتان ببنيتهما التحتية الرديئة. إلى جانب ذلك تعوقهما أيضا الأحياء ومراكز المدن المنفصلة بشدة، التي تعاني ليس فقط أزمة العقارات التجارية، بل أيضا تضاؤل وسائل الراحة أو الترفيه التي من شأنها أن تجذب الناس في وسط المدينة إلى شيء آخر غير العمل.
من المرجح أن تتفاقم هذه المشكلات قبل أن تتحسن. تقرير الاستقرار المالي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأسبوع الماضي، انتقد انكشاف المؤسسات المالية للعقارات التجارية باعتباره أحد المهددات الرئيسة للاقتصاد الأمريكي، حيث بدأ انفجار الفقاعة للتو. حذر الاحتياطي الفيدرالي من أنه نظرا لأن الرهون العقارية المدعومة من مكاتب وشركات التجزئة في وسط المدينة تميل إلى أن تكون نحو ثلث حيازات العقارات التجارية "رغم بقاء تقييماتها عالية، يمكن أن يكون حجم التصحيح في قيم الممتلكات كبيرا، بالتالي يمكن أن يؤدي إلى خسائر ائتمانية لحاملي ديون العقارات التجارية". ومع سقوط قطع الدومينو تلك، قد تسقط قطع أخرى في النظام المالي.
كيف نتجنب "تأثير الدونات" ككل؟ لقد ساعد تحويل العقارات التجارية إلى مساحات سكنية أو متعددة الاستخدامات على تجديد أجزاء من وسط مدينة ديترويت. لكن كما يشير المؤرخ توم سوجرو، مؤلف كتاب "أصول الأزمة الحضرية: العرق وعدم المساواة في ديترويت ما بعد الحرب" كان التعديل التحديثي لمباني المكاتب في المدينة في عشرينيات القرن الماضي أسهل بكثير منه في ناطحات السحاب العصرية. هذا أحد أسباب ارتفاع أسعار الإيجارات والمساكن في الحلقات الخارجية لمدن مثل نيويورك بشكل حاد منذ الجائحة. يقول سوجرو "كثير من أحياء الطبقة الوسطى لم تكن فارغة، وغالبا ما تكون أحياء المهاجرين أو مزيد من أحياء الطبقة العاملة هي التي لم تغلق بالفعل".
لسوء الحظ، يؤدي هذا الآن إلى أزمة أوسع حتى في تكلفة المعيشة للعاملين وإلى إيجارات أعلى للشركات الصغيرة في مناطق مثل كوينز أو بروكلين. ومجرد نقل مشكلات مانهاتن -أو يونيون سكوير في سان فرانسيسكو- إلى الضواحي ليس حلا، خاصة إذا نتج عن هذا فرض ضرائب أعلى على السكان الأقل قدرة على تحمل تكاليفها. "تعتمد معظم المدن الكبرى، بما فيها نيويورك وسان فرانسيسكو، أصلا على ضريبة العقارات السكنية أكثر من ضرائب العقارات التجارية لتمويل الخدمات العامة".
إذن، ما العمل؟ كنت لأفعل ما فعلته جين جاكوبس الناشطة الحضرية، وأنظر في الاستخدامات المتعددة. فقد لا يعود العمل المكتبي كما كان، لكن دور السينما وعروض برودواي عادت، والفنادق تزدهر وأجور قطاع الخدمات أعلى بكثير من مستوى ما قبل كوفيد، وفقا لبيانات من شركة أبولو لإدارة الأصول. لا يزال الناس يرغبون في العيش في المدن الكبرى وزيارتها، إنهم يريدون فقط القيام بذلك بطرق جديدة.