أثر الزحام في المنشآت متناهية الصغر
النقل داخل المدن أصبح من أهم التحديات الاقتصادية أمام نمو المنشآت الصغيرة ومتناهية الصغر، ومشكلة النقل ترتبط دائما بمشكلة أهم وهي الوصول بالمنتج للعميل عند المستوى المطلوب من الجودة، هذه العبارة مهمة جدا، فهي أساس في المشاريع بكل تنوعها، حتى في علم المحاسبة، فالوصول بالمعلومة المحاسبية للمستخدم في الوقت المناسب وبالشكل المناسب تعد أهم خصائص جودة المعلومات المحاسبية، العلاقة بين مشكلة النقل ومشكلة إيصال المنتج للعميل هي الوقت، كلما استطاع رجل الأعمال الوصول للعميل بسرعة أعلى من منافسيه كانت له يد السبق والربح الأعلى، ولهذا كان حل مشكلة النقل من أهم القضايا التي يتعلمها خريج كليات الأعمال مهما كان تخصصهم، وقد كان فرانك ل. هيتشكوك أول من قدم لهذه النظرية المهمة عام 1941 في دراسته المشهورة بعنوان "توزيع منتج من عدة مصادر على عدة مناطق"، وقد تطورت تطبيقات هذه النظرية منذ ذلك الحين. لكن مع الأسف فإن قليلا من المبادرين ورواد الأعمال يراعون هذه المسألة أو حتى يدرسونها بحرص قبل الدخول في مشاريعهم، وكأنها تحصيل حاصل، وقلما وجدت دراسة جدوى أخذت في الحسبان هذه المشكلة وقدمت حلا لها.
تفشل المشاريع في مدن مزدحمة بسبب صعوبة النقل أو ارتفاع تكلفته، ليس بالضرورة على البائع، بل المستهلك أيضا، وسأقدم مشكلة كنموذج لما يمكن أن تتسبب فيه هذه المسألة من فشل للمشاريع الصغيرة التي لا تأخذها في الحسبان، فلو تصورنا وجود رائد أعمال يقوم بشراء منتجات بالجملة ويبيعها على أكثر من محل، بمعنى أنه يتخصص في التوزيع، وإذا تصورنا أنه يقوم بشراء المنتج بسعر عشرة ريالات ويقوم ببيعه على المحال المستهدفة بسعر 15 ريالا، أي: يحصل على ربح بواقع 50 في المائة، وهذا مشجع، لكن حتى تصبح الأمور مجدية اقتصاديا لا بد من تحقيق رقم مبيعات كاف، كأن يصل إلى 50 محلا في اليوم الواحد، وهذا يعني أن عليه شراء بقيمة 500 ريال، ليقوم ببيعها بقيمة 750 ريالا، ويحقق ربحا قدره 250 ريالا في اليوم، ومع تجاهل مسألة الوقود وخلافه، فإن الوصول إلى 50 محلا يوميا يتطلب منه أن يمضي مع كل محل وقتا من الوقوف ثم تسليم المنتج ثم تسلم النقود ثم المغادرة، وهذا يتطلب زمنا قد يستغرق 20 دقيقة، أي: إننا بحاجة إلى 1000 دقيقة عند 50 محلا "16 ساعة" عمل وهذا مستحيل تماما، لحل هذه المشكلة، فعليه أن يقلص عدد المحال ويرفع عدد المنتجات وهكذا حتى يصل إلى ثماني ساعات عند ربح 250 ريالا، وإذا استطاع حل هذه المشكلة فإن عليه حل مشكلة الوصول للمحال خلال وقت قصير، وهنا تأتي مشكلة زحمة الشوارع لترفع ساعات العمل مرة أخرى ولمعالجة المسألة عليه العودة مرة أخرى إلى تقليص عدد الساعات من خلال تقليص عدد المحال وزيادة عدد المنتجات أو رفع الأسعار عليها، وهنا تبدأ الأمور في التشعب نظرا لحجم المنافسة. مشكلة النقل تظهر أيضا مع المستهلك، فكثير من رواد الأعمال لا يأخذ في حسبانه الوقت الذي يستغرقه المستهلك للوصول إليه، بعض الشوارع قد تكون هادئة تماما لكن الوصول لها يتطلب المرور عبر منعطفات كثيرة، أو إشارات عديدة أو حتى المرور بنقاط ازدحام متعددة.
هكذا تبدو المشكلة من زاوية أخرى، فحل الاختناقات المرورية له أبعاد اقتصادية عدة، ومنافع لا حصر لها، وهو استثمار اقتصادي ذو جدوى واضحة، فإذا تمت معالجة الاختناقات المرورية من قبل الأمانات أو وزارة النقل، فقد تم دعم رواد الأعمال بشكل غير مباشر، وحل مشكلة النقل أو الإسهام في حلها جوهريا، وهذا سيعزز النشاط التجاري وبالتالي الإيرادات الحكومية سواء في شكل ضرائب قيمة مضافة أو رسوم الخدمات، فلا بد من نظرة اقتصادية عميقة لمسألة الاستثمار في البنى التحتية وهي نوع من أنواع الإنفاق الرأسمالي ذي الجدوى الواضحة ولو كانت غير مباشرة. ومثل ذلك إزالة العوائق من الطرق، مثل المطبات الصناعية أو الإشارات المرورية غير الضرورية، فكلما تم تقليص وقت الرحلات داخل المدن تحقق نشاط اقتصادي أكبر وازدهار كبير، الكباري المعلقة ليست مجرد تحف معمارية ورموز حضارية، بل هي استثمارات اقتصادية ذات عوائد على الدول، وكذلك استخدام وسائل النقل العامة، ليست مجرد تخفيض تكلفة استخدام الوقود، بل هي نقلة اقتصادية تشجع على خفض الوقت اللازم للوصول للأسواق، وهو أمر في غاية الأهمية، لذلك كلما كانت وسائل النقل العام أكثر شمولية وذات نقاط متعددة تعمل على تقريب الأعمال والأسواق والأحياء السكنية من بعضها كانت العوائد الاقتصادية مذهلة.