مؤشرات الأخطار الجيو - سياسية على العالم
عندما نقول "جيوسياسي" لوصف أمر ما، فنحن نجمع بين كلمتين لكي نعبر لغويا عن المعنى المقصود بهذا الوصف. الكلمة الأولى هي "الجغرافيا"، والثانية هي "السياسة". تحمل الكلمة الأولى "الجغرافيا " معنى دراسة الأماكن، وكذلك العلاقة بين الإنسان من جهة، وشؤون البيئة المحيطة من جهة أخرى. وهي في ذلك تهتم بالصفات المادية للأرض وما يحيط بها، وبالخصائص الاجتماعية للمجتمعات الإنسانية التي تعيش عليها أيضا. وهناك من يصف الجغرافيا بأنها مادية عندما تركز على شؤون الأرض والمناخ والبيئة المحيطة، والفصول الأربعة، والتربة والأنهار والبحار والمحيطات، ويصفها بأنها إنسانية حينما تهتم بشؤون توزع السكان، وثقافاتهم، وتوزعهم على مناطق الأرض المختلفة. وكثيرا ما يطلق على الجغرافيا لقب علم الجغرافيا الذي ينظر إليه على أنه يشمل التفاعل بين أنظمة الطبيعة من جهة، والنشاطات المرتبطة بالإنسان والثقافة من جهة أخرى.
ونأتي إلى الكلمة الثانية "السياسة" التي ترى على أنها حكم الدول، والنشاطات، ذات العلاقة، التي تقوم بها الجهات المختلفة. ويشمل ذلك نشاطات المؤسسات والوحدات الاستراتيجية المؤثرة محليا ودوليا، مثل تلك التي تتضمن اتخاذ قرارات تشمل استخدام إمكانات مهمة، إلى جانب تفعيل تنفيذها. والسياسة في إطارها العام علم واسع يطلق عليه تعبير العلوم السياسية، وهي علوم متفرعة عن العلوم الاجتماعية الأوسع نطاقا. وتبحث العلوم السياسية في شؤون السلطة والأسس الدستورية وقواعد الحوكمة، إلى جوانب القوانين المنظمة لشؤون الحياة المختلفة، والمؤسسات المسؤولة عنها، والنشاطات المتعلقة بها.
ونعود إلى دمج الكلمتين في تعبير "جيوسياسي". يعطي هذا الوصف معنى يمكن فهمه عنه على أنه أثر الخصائص الجغرافية لدولة من الدول، أو لمنطقة من المناطق، في صفاتها السياسة والنشاطات المرتبطة بها. ويتضمن ذلك، على سبيل المثال، أثر حجم الدولة وموقعها الجغرافي، وخصائص مادية أخرى، في أهمية هذه الدولة وقوتها ونشاطاتها، وعلاقاتها مع الدول الأخرى، وتأثير ذلك في الإنسان. ولا يخلو العالم من مشكلات، بل ومن أخطار حالية ومستقبلية ترتبط بالشؤون الجيوسياسية.
اهتم المنتدى الاقتصادي الدولي WEF، في تقريره بشأن الأخطار على العالم، لـ2023، بهذا الأمر، حيث طرح ستة أخطار في هذا المجال، ضمن 32 خطرا رئيسا شملت إلى جانب المجال الجيو سياسي، مجالات التقنية، والبيئة، والمجتمع، والاقتصاد. وقد تحدثنا في مقالات سابقة عن أخطار هذه المجالات الأربعة، وحديثنا فيما يلي سيكون حول الأخطار الجيوسياسية التي أوردها المنتدى الاقتصادي الدولي، مع بعض الملاحظات بشأنها. وسنورد هذه الأخطار في ترتيب يتبع أهميتها، في إطار كل من أخطار المجال الجيوسياسي من جهة، ومجمل الأخطار المطروحة كلها، على أساس البعد الزمني المستقبلي للأعوام العشرة المقبلة.
يرى تقرير المنتدى، في إطار ما سبق، أن الخطر الجيوسياسي الأول على العالم، والمصنف تاسعا بين مجمل الأخطار، هو خطر المواجهة الجيو ـ اقتصادية. ويأتي الجانب الاقتصادي في هذا الخطر معبرا عن دور الاقتصاد في المجال الجيو سياسي. ويتمثل هذا الخطر في التأثير الاقتصادي للدول الأقوى على مستوى العالم، وكذلك تلك الأقوى في إطار كل منطقة من مناطقه، حيث تسعى مثل هذه الدول إلى التحكم في التعاون الاقتصادي بين الدول المتأثرة بها، بما يشمل شؤون تبادل السلع، والخدمات، والتقنية، وغير ذلك. ويأتي هذا الأمر كممارسة لسلطة القوة في توجيه شؤون الأمم بما يتناسب مع مصالح الدول الأقوى، ولا يكون مثل ذلك عادة في مصلحة الدول الأضعف.
يتمثل الخطر الجيوسياسي الثاني، وهو الخطر الـ12 بين مجمل الأخطار الـ32 المطروحة، في مشكلة عدم كفاءة الهيئات متعددة الأطراف العاملة في مجال التعاون الدولي، حيث يؤدي ذلك إلى ضعف هذا التعاون. وقد ينتج مثل هذا الضعف عن التشتت وعدم التوافق الجيوسياسي الذي تعانيه كثير من الدول، وقد يتسبب ذلك في غياب التنسيق المفيد فيما بينها في الشؤون المختلفة، مثل التبادل التجاري، وشؤون البيئة، والشؤون الصحية ومقاومة الأوبئة، والتعاون في شتى المجالات الأخرى.
ويأتي خطر الصراع بين الدول في المرتبة الثالثة بين الأخطار الجيوسياسية، والمرتبة الـ13 بين مجمل الأخطار. وقد يكون مثل هذا الصراع ثنائيا بين دولتين، أو يكون متعدد الدول. وقد يتمثل بمعارك ساخنة، أو ضغوط اقتصادية، أو ربما باختراقات سيبرانية تهدد البنى الأساسية. وقد يكون الصراع مباشرا ومعلنا، أو يتم عبر وكلاء يبرزون كمجموعات تحركها الدول المعنية بالصراع. ويتداخل هذا الخطر مع خطر استخدام أسلحة الدمار الشامل الذي يحتل المرتبة الخامسة بين الأخطار الجيوسياسية، والمرتبة الـ28 بين مجمل الأخطار. فحرارة الصراع بين الدول، يمكن أن تدفع القيادة في إحداها إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل التي لا تبقي ولا تذر.
يبقى خطران متداخلان أيضا بين الأخطار الجيوسياسية المطروحة هما خطر انهيار الدول الذي يأتي في المرتبة الرابعة جيو ـ سياسيا، ويحتل المرتبة الـ22 بين مجمل الأخطار، وخطر الهجمات الإرهابية الذي يبرز في المرتبة السادسة جيو ـ سياسيا، والمرتبة الـ28 بين جميع الأخطار المطروحة في تقرير المنتدى الاقتصادي الدولي.
يبرز خطر ضعف الدول وانهيارها عادة نتيجة أسباب داخلية، قد تتمثل في سوء أداء المؤسسات المؤثرة في الدولة، والمشكلات والصراعات التي يمكن أن تنتج عن ذلك من جهة، إضافة إلى أسباب خارجية، ربما تتسبب في تفعيل هذه المشكلات والصراعات من جهة أخرى. ويعطي ضعف الدول، والأسباب الداخلية والخارجية لهذا الضعف، بيئة محفزة للتناقضات المسببة لخطر الهجمات الإرهابية، وما يمكن أن تخلفه من ضحايا أبرياء.
ترتبط الأخطار الجيوسياسية، المطروحة فيما سبق، بتأثر الإنسان بما حوله وسلوكه في إدارة المؤسسات وتوجيه الدول. ولا شك أن هذه الأخطار، إن حدثت، وهي تحدث فعلا، تتسبب في خسائر لجميع أطرافها. ولعل للحكمة دورا ضروريا في هذا المجال، فهي وسيلة مهمة للحد من مثل هذه الأخطار، وربما التخلص منها أيضا، والأمل في ذلك يأتي من انتشار هذه الحكمة، وتعمقها لدى جميع الأطراف، خصوصا الأطراف الأكثر تأثيرا.