منظومة الابتكار السعودية .. ومسألة تفعيلها

ليس الابتكار بحثا علميا يقدم معرفة متميزة قابلة للنشر العلمي، بل إنه أكثر من ذلك. فهو يريد لهذه المعرفة أن تحمل قيمة قابلة للتوظيف وتقديم معطيات مفيدة مطلوبة، أو تستطيع تحفيز الطلب، وقادرة بالتالي على الإسهام في التنمية. وهو لا يكتفي بذلك، بل يتطلع أيضا إلى الاستمرار والتجدد في تقديم المزيد، حرصا على استدامة التنمية وتحقيق الازدهار، وترسيخ ثقافة التميز التي تعزز الاستدامة جيلا بعد آخر. وهكذا نقول إن الابتكار يركز على المعرفة الحية، دون غيرها، لأنها مشحونة بالتطوير والحركة نحو مستقبل أفضل. ولا يتطلع الابتكار إلى المعرفة الحية المحركة لجانب التطوير الاقتصادي فقط، بل يريد أيضا تلك المحركة لكل من جانب التطوير الاجتماعي، وجانب التطوير الإنساني أيضا. ولا شك أن هناك أثرا وتأثيرا لكل من هذه الجوانب الثلاثة على الجانبين الآخرين.
يكمن جوهر الابتكار في الإنسان، ويحتاج نمو هذا الجوهر إلى الثقافة الملائمة، والرعاية اللازمة، والبيئة المحفزة لكي يتمكن من العطاء، ويحمل راية التميز والتطوير نحو المستقبل المنشود. ومثله في ذلك، كمثل بذور الثمار في الأرض، فهي تحتاج إلى البيئة المناسبة، وإلى العناية والسقيا، لكي تعطي وتسهم في ازدهار الحياة. وهنا يأتي دور ما يمكن أن نسميه بالمنظومة القادرة على حوكمة الابتكار وإدارته وإرشاده، عبر مسيرة تبدأ بثقافة المجتمع، وتنمية الابتكار في الإنسان، وتحفيز إمكاناته ورعايتها، وتشجيعه على التميز والعطاء، وتنشيط عطائه وريادته للأعمال المفيدة المختلفة، بما يؤدي إلى تفعيل التنمية، وتعزيز استدامتها.
تتمتع المملكة بمشهد متميز لمنظومة الابتكار، تشمل في تكوينها مؤسسات قادرة على بناء مسيرة فاعلة ومتجددة للابتكار، تستطيع الإسهام في تحقيق طموحات رؤية المملكة، والتفاعل أيضا مع استدامة التقدم المتسارع الذي يشهده العالم، حتى فيما بعد 2030. لدى المملكة مؤسسات ثقافية وإعلامية تستطيع تفعيل ثقافة الابتكار في المجتمع. ولديها مؤسسات التعليم العام المنتشرة في مختلف أرجائها والقادرة على استيعاب الجميع، ولديها جامعات ذات إمكانات معرفية وبحثية متميزة، إضافة إلى مؤسسات وشركات للتدريب المهني. ولديها، في إطار تطلعات تطوير التعليم، برنامجا لتنمية القدرات البشرية، فضلا عن مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع "موهبة" الراعية والممكنة للموهوبين والمتميزين. ثم لديها، في مجال البحث العلمي، مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، ومدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة. ولديها أيضا الهيئة السعودية للفضاء.
ولدى المملكة، على مستوى تفعيل ريادة الأعمال والإسهام في التنمية، الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة. ولديها، في إطار تعزيز الإنتاجية وتفعيل جودتها، المركز الوطني للقياس والمعايرة. ولديها في مجال متابعة المستجدات، مركز استشراف التقنية التابع لوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات. وفي موضوع التنافسية، لديها المركز الوطني للتنافسية. ولديها، في موضوع إدارة الابتكار في المؤسسات، لجنة متخصصة في معايير هذه الإدارة، تتبع هيئة المواصفات والمقاييس السعودية، وتسهم هذه اللجنة أيضا في المواصفات الدولية لإدارة الابتكار التي تضعها هيئة المواصفات والمقاييس الدولية. ويضاف إلى كل ما سبق، الشركات الكبرى المنتجة والداعمة للبحث العلمي والابتكار، وعلى رأسها "أرامكو" و"سابك" وغيرها. وبالطبع هناك، على المستوى العام الشامل، هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار، إلى جانب وزارة الاقتصاد والتخطيط. ولعل هناك جهات أخرى، فاتنا ذكرها، ترتبط بشؤون الابتكار ومعطياته.
انطلاقا مما سبق، نجد أن الابتكار في المملكة يقف أمام أطراف عديدة تتطلع إليه، داعمة له، وممكنة لنشاطاته، وتواقة إلى الإسهام في مختلف مراحل مسيرته نحو العطاء والتميز وتحقيق التنمية المنشودة. ولعل هذا المشهد، بأطرافه العديدة، يشبه أوركسترا كبيرة من العازفين على آلات فرحة، ترشحها لعزف سيمفونية الابتكار باقتدار ونجاح. ويحتاج عزف هذه السيمفونية بالنجاح المأمول إلى مهارة العازفين المتمثلة في إمكانات أطراف الإسهام في الابتكار سابقة الذكر من جهة، إضافة إلى قدرة المايسترو على قيادة هذه الإمكانات وتوجيه تناغمها من ناحية ثانية. وقد تحدثنا في مقالات سابقة، نشرت على هذه الصفحة، عن إمكانات بعض هذه الأطراف، وعن تميزها المعرفي وعطائها، وتطلعاتها المستقبلية. وشمل ذلك برنامج تنمية القدرات البشرية وطموحاته في بناء المواطن المنافس عالميا. وتضمن أيضا مؤسسة "موهبة" ورعايتها للموهوبين وتمكينهم، وبروز عطائها من خلال تميز أبنائها في المسابقات الدولية. كما احتوى على طرح المعايير الدولية ISO 56000 التي تحتاج إليها المؤسسات من أجل إدارة الابتكار فيها وتفعيله.
لا شك أن الحديث عن باقي أطراف الابتكار في المملكة مطلوب، لكننا سنضع الأفضلية، في ختام هذا المقال، للمايسترو، أي للجهة التي تستطيع أن تستوعب جميع الأطراف وتنسق نغماتهم في عزف سيمفونية الابتكار المنشودة. ولعل الجهة التي يمكن أن تقع عليها هذه المسؤولية، هي هيئة تنمية البحث والتطوير والابتكار التي أسست في 2021. ترفع هذه الهيئة شعارا يقول "التحول نحو اقتصاد قائم على الابتكار، من أجل بناء مستقبل مستدام، يحقق طموحات رؤية المملكة 2030". وتوضح المهمات الرئيسة الثلاث الموكلة إليها دورها المأمول كمايسترو لسيمفونية الابتكار في المملكة. تقضي المهمة الرئيسة الأولى بدعم وتشجيع قطاع البحث والتطوير والابتكار، وتركز الثانية على تنسيق نشاطات المؤسسات ومراكز البحوث العلمية، وتهتم الثالثة باقتراح السياسات والتشريعات والتنظيمات، وتقديم التمويل اللازم.
ليس الابتكار نوعا من الرفاهية في هذا العصر، بل بات متطلبا يحتاج إليه الجميع. على مستوى الفرد، تميز القدرة على الابتكار الإنسان عن الذكاء الاصطناعي وتحدياته في مسألة العمالة. وعلى مستوى المؤسسة، تبرز الحاجة إلى إدارة فاعلة للابتكار بين منسوبيها لتحقيق الريادة في معطياتها. وعلى مستوى الدولة، تنشأ مسألة الابتكار الجمعي للأفراد والمؤسسات لتعطيها نبوغا وقدرة تنافسية أكبر، ترتقي بمكانتها بين الأمم. ولدى المملكة اليوم منظومة متكاملة من المؤسسات والبرامج المتميزة الداعمة للابتكار والممكنة له على جميع المستويات. ويبرز أمل المستقبل المنشود في تفعيل تكامل عمل هذه المنظومة، وفي جهودها الجامعة، ضمن إطار من التوافق المنضبط بجهة مؤثرة تعمل كمايسترو، يجيد استنباط النجاح، وتحقيق التميز.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي