التعامل مع التقنية الرقمية وتحدياتها «1 من 2»
يتمتع الإنسان بصفات عديدة تؤثر في سلوكه، وفي تكوينه لآرائه، وتحديده لتوجهاته، وكذلك في اتخاذه لقراراته في مختلف شؤون حياته الاجتماعية والمهنية. لا تنبع هذه الصفات من تكوينه الخلقي، الذي أراده الله له فقط، ولا تأتي متأثرة بثقافة نشأته الأولى فقط، كما أنها لا تبرز نتيجة لدراساته وما يحصل عليه من معرفة وتخصص فقط، لكنها، إضافة إلى ما تقدم، ترتبط بما يتراكم لديه من خبرات، وما يشهده من تغيرات وتطورات، ومن تحديات ومتطلبات، يفرزها العصر الذي يعيش فيه.
يشهد هذا العصر تغيرات متسارعة، تتضمن ظهور وسائل مؤثرة، وغير مسبوقة، وبصورة مستمرة. فالثورة الصناعية تتجدد باستمرار، لتعطي منتجات من السلع والخدمات التي يعتمد أثرها على مدى استخدام الإنسان لها، وعلى طبيعة هذا الاستخدام، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. في الطاقة النووية، على سبيل المثال، نور يضيء الظلام، وحركة تفعل الإنتاج والخدمات، من ناحية، ثم فيها أيضا دمار وكوارث لا حدود لها، من ناحية ثانية. وفي التقنية الرقمية والذكاء الاصطناعي، فاعلية وكفاءة ورشاقة وذكاء في التعامل مع المعلومات، عبر المسافات، وفي شتى المجالات، وفيها أيضا تحديات كثيرة لا بد من مواجهتها بالأساليب المناسبة. وتبرز في إطار ما سبق، الحاجة إلى الاهتمام بصفة "المرونة" في الإنسان، من أجل تعامل ناجح مع معطيات العصر المتجددة.
لا بد للمرونة المستهدفة من أن تسعى إلى تعامل مثمر مع معطيات العصر المتجددة، من أجل الاستفادة منها على أفضل وجه ممكن. وتجمع كلمة مرونة في لغتنا الجميلة، كلمتان باللغة الإنجليزية، يستحسن ذكرهما، والتعرف عليهما، نظرا إلى الانتشار الواسع لهذه اللغة، ونظرا أيضا إلى المعاني التي تحملها هاتان الكلمتان. هناك كلمة "مرونة Flexibility"، بمعنى مرونة النظر في شؤون الحياة، واستيعاب مضامينها، وفهم اختلافاتها. ثم هناك تعبير "مرونة Resilience"، بمعنى التكيف والصمود والمحافظة على الاستدامة الفاعلة، في مواجهة تحديات الحياة، ويقول المثل الشعبي العربي الشهير الذي يعبر عن مثل ذلك "لا تكن قاسيا فتكسر، ولا لينا فتعصر".
تتمتع الكلمتان بمعنى يتسم بالتكامل في مسألة التعامل مع شؤون الحياة المختلفة ومعطياتها. فإذا كانت الأولى تقضي بفهم هذه الشؤون، وإدراك مضامينها، واستيعاب معطياتها، وتفهم اختلافاتها، فإن الثانية تسعى إلى الصمود أمام التحديات، عبر التكيف معها، واختيار التوجهات المناسبة للتعامل معها والاستجابة لمتطلباتها، بما يؤدي إلى استمرارية التعامل، وربما تفعيله نحو الأفضل أيضا. ولا شك أن هذا المعنى المتكامل للمرونة يجب أن يتكلل بالإيجابية التي تضع كلا من جانب الفهم والإدراك من جهة، وجانب التكيف في التعامل من جهة أخرى في إطار الالتزام بمكارم الأخلاق. فالسلوك الأخلاقي مطلوب دائما في أمرين: في أمر الدنيا، من أجل تماسك المجتمع ونجاحه وسعادته، وفي أمر الآخرة وطموحات جنات النعيم.
سنطلق على المعنى الثنائي المتكامل لأسلوب المرونة في التعامل مع شؤون الحياة، وعلى الالتزام الأخلاقي فيه، تعبير "منهجية المرونة". ولا شك أننا نحتاج إلى مثل هذه المنهجية في تعاملنا الحالي والمستقبلي مع المعطيات التقنية المتجددة التي يشهدها هذا العصر، بما يشمل فوائدها وتحدياتها. وسنطرح هذا الأمر في التالي، وفي المقال المقبل -بمشيئة الله-، وذلك فيما يختص بالتقنية الرقمية والتحول الرقمي، وآفاق تفعيل الاقتصاد الرقمي، والاستفادة من معطياته.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الذكاء الاصطناعي ليس ببعيد عن التقنية الرقمية، لأنه على أرض الواقع جزءا صاعدا، بل فاعلا منها، يلعب دورا متزايدا في تعزيز إمكاناتها. وإذا أردنا أن نقدم أمثلة حول التقنيات الرقمية الصاعدة والفاعلة الأخرى، إلى جانب الذكاء الاصطناعي، فلعلنا نذكر إنترنت الأشياء، وأنظمة الاستشعار والتحكم، والحوسبة السحابية، وأنظمة البيانات الضخمة، وأنظمة كشف المواقع، وأنظمة حماية عمل هذه التقنيات وما تحمله من معلومات، وغير ذلك من تقنيات رقمية رئيسة.
تكمن أهم التطبيقات العامة للتقنية الرقمية في توجهين رئيسين: أولهما، تقديم الخدمات والعمل والتعاون المعلوماتي عن بعد، ويرتبط هذا التوجه بمختلف مجالات الحياة، فلجميع نشاطات الإنسان الاجتماعية والمهنية جانب معلوماتي يسهم في تنفيذها. أما التوجه الآخر، فيرتبط بالتحكم المعلوماتي في عمل الأنظمة الميكانيكية والروبوتات، كما هو الحال في أنظمة قيادة السيارات والطائرات. ويختلف مستوى الذكاء الاصطناعي في كل من هذين التوجهين بين حالة وأخرى.
تقدم التقنية الرقمية معطيات يجب النظر إليها عبر منهجية المرونة. ويشمل ذلك سبر مكامنها، واستيعاب مضامينها، وإدراك فوائدها، والتعرف على اختلافاتها وشؤون استخدامها والاستفادة منها. ولأن هذه التقنيات تفرز تحديات أيضا، فلا بد من استكمال المنهجية، والصمود أمام هذه التحديات عبر التكيف الواعي أمام متطلباتها، والسعي إلى تحقيق الاستمرارية لشؤون الحياة المرتبطة بها، فضلا عن الطموح نحو تقديم المزيد.
تعطي التقنية الرقمية نوعين من الفوائد، في إطار استخدامها والاستفادة منها في التعامل مع المعلومات في شتى المجالات. يرتبط النوع الأول بفوائد تتسم "بالتوفير"، بمعنى التوفير في الزمن، وفي الحركة والتنقل، وفي مساحات العمل، وفي التكاليف، وغير ذلك. أما النوع الثاني فيرتبط "بالفوائد الجديدة غير المسبوقة"، التي لم تكن قائمة من قبل. وتشمل هذه الفوائد أداء الأعمال المعلوماتية آليا بذكاء غير مسبوق، والتحكم الذكي في الأنظمة الميكانيكية، ووجود فرص جديدة للتوسع في الأعمال، والارتقاء بمستوى جودة الحياة، وغير ذلك.
إضافة إلى الفوائد سابقة الذكر، تفرز التقنية الرقمية أنواعا من التحديات، يجب الاهتمام بالتكيف في التعامل معها، والاستجابة لمتطلباتها، والحفاظ على استدامة الاستفادة من فوائدها، بل السعي إلى تطوير هذه الاستفادة نحو الأفضل. ويرتبط التعامل المأمول بأربعة محاور رئيسة متكاملة: محور بشري يهتم بالإنسان، وآخر مهني يركز على عمله، وثالث تشريعي معني بالتنظيم اللازم، ورابع تقني يهتم بشؤون التقنية ومعطياتها وتطورها. وسنعود في المقال المقبل إلى المزيد في مسألة منهجية المرونة والتعامل مع التقنية الرقمية وتحدياتها، بما يشمل استيعاب معطياتها من جهة، ومواجهة تحدياتها من جهة أخرى... يتبع.