ماركوتز رائد الاقتصاد المالي

قبل عدة أسابيع توفي هاري ماركوتز، الذي يعد ربما رائد العلوم المالية، خاصة في إدارة الاستثمارات. تنظير ماركوتز كان فاصلا لما قبله ولما بعده، إلى حد أنه في أثناء نقاش أطروحته للدكتوراه مازحه ملتون فريدمان، بأن ليس لديه ما يقول عنها عدا السؤال، هل هي تدخل في علم الاقتصاد أو لا؟! ولد هاري ماركوتز في شيكاغو 1927 كالابن الوحيد لعائلة يهودية أعلى من المتوسط. بدأ قراءته في الفلسفة سريعا ما مكنه من دخول برنامج عامين للبكالوريوس في جامعة شيكاغو، وسرعان ما ترك الفلسفة وتحول إلى دراسة الاقتصاد والرياضيات إلى أن حصل على الدكتوراه في 1955، بعد أن نشر رسالته في 1952. رسالته كانت عما سمي لاحقا بـ"نظرية المحافظ الحديثة"، وكان أحد أساتذته ملتون فريدمان.
جوهر النظرية في العلاقة بين المخاطرة والعائد، حيث أثبت أن المخاطرة في أي محفظة لا تقاس بالمخاطرة لأي جزء منها فقط، بل بمجملها، لأن هناك علاقة بين الأجزاء المكونة للمحفظة. وهذه أول مرة يستند فيها التنويع إلى نظرية قابلة للقياس من خلال معادلات رياضية. إذ يقول أندر لو أستاذ المالية في MIT، إن الجميع يعرف الفائدة من التنويع ـ ألا نضع كل البيض في سلة واحدة، لكن ماركوتز علمنا كم بيضة وأي بيضة في سلة مختلفة، وبالتالي نعظم من فائدة التنويع بطريقة علمية. وصل ماركوتز إلى هذه النظرية بعد قراءة ما كان سائدا في حينه بأن العائد على السهم ما هو إلا خصم الأرباح الموزعة مستقبليا، لكن ملاحظة ماركوتز أن هذه النظرية لا تأخذ حالة عدم اليقين "المخاطرة" في الحسبان. سرعان ما انتقلت نظرية ماركوتز من الدائرة الأكاديمية إلى بيوت المال والصناديق الاستثمارية وأصبحت لغة الاستثمار.
حتى قبل الدفاع عن أطروحته انتقل إلى العمل في الأبحاث مع شركة راند في كاليفورنيا والمعروفة بعلاقاتها الواسعة والقريبة من صناع القرار الأمريكي، وهناك تعرف على وليام شارب الذي طور النمذجة المالية لقياس العائد لكل وحدة مخاطرة. ماركوتز ووليام شارب وميرتون تشاركوا في الفوز بجائزة نوبل في الاقتصاد 1990. يقول إنه في "راند" تمكن من تطوير الآليات لجعلها عملية، وأن التجربة صقلت النظريات، خاصة بوجود القدرات الرياضية والحاسوبية، حيث طور برامج في فرع من الرياضيات مختص بأبحاث العمليات، يوظف عادة لتعظيم المصلحة من كل ما يدخل في عملية الإنتاج، حيث فاز بجائزة هذا الفرع من الرياضيات 1989. لم يكن منظرا فحسب، بل أدار صندوق تحوط مالي بنجاح، وعمل مستشارا لعدد من الشركات. قبل ماركوتز كانت إدارة المحافظ تدار بطريقة أقرب للتقدير الجزافي ومحاولة التنويع، لكن دون نظرية يستند ويجمع عليها المختصون.
وتنقل ماركوتز بعد "راند" إلى عدة جامعات أمريكية، منها جامعة بنسلفانيا وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وكلية باروخ في نيويورك، ورتغرز في نيوجيرسي، وأخيرا جامعة كاليفورنيا في سان دييغو. نشر عدة أوراق بحثية في المال والرياضيات وذكرت مجلة مختصة في المال، أنه رجل القرن في مجاله. تزوج مرتين وخلف أربعة بالتساوي. قيل إنه كان رجلا صبورا ومتعاونا مع كل من يرغب في التعلم، لكن لا يشجع من يحرص على توظيف المعادلات دون التفكير في المدخلات. توفي في سان دييغو كاليفورنيا الشهر الماضي.