المرقش .. التاريخ بتقنية الذكاء الاصطناعي
ما زالت قصص التاريخ العربي تعبق بأجمل الروايات التي يمكن إعادة تصويرها بما يتناسب مع متطلبات العصر الحديث، خاصة أنها تجمع جمالية الحب وعبقرية الشعر، وتنقل صورا مختلفة لقصص لا تشبه غيرها، حفرت في ذاكرة التاريخ العربي أجمل ما يمكن أن نقرأه عن الحب والوفاء، ما حولها إلى أيقونات خالدة قلة من عرف كيف يتكئ على بيرقها لينتج عملا أدبيا مختلفا ومتكاملا. وقد نجح الباحث والروائي السعودي صالح بن عايض اليامي، في توظيف إحدى أعظم قصص العشق والحب العذري بنهايتها المأساوية وفصولها الممتلئة بالدراما والحزن والتأسي على الذات، روائيا، مع إعادة توظيف خوارزميات الذكاء الاصطناعي، لتكوين أقرب صورة للحقيقة من خلال سيرة "المرقش" أحد أبرز شعراء الجاهلية وأحد أبطال حرب البسوس.
حملت الرواية عنوان "المرقش"، وصدرت أخيرا عن دار "نينوى" للدراسات والنشر، وهي الرواية الثامنة لليامي وفيها يسرد التاريخ من منظور شامل تكاملي، وكأنها تقول إن الحقائق ليست مكتملة إلا بتفكيكها وإعادة بنائها بكل تجرد، والحق لا يمكنه أن يجادل الباطل، ولا توجد بينهما جدلية مشتركة، والحب جسر ممتد لا يمكن لأحد هدمه ولكنه قائم على التضحية العظمى.
شخصيات المرقش
قصة "المرقش" تثري الخيال مع تقاطع عديد من الشخصيات في تلك الحقبة، منها شخصية "مسعد" الذي يقوده الفضول للسقوط في حفرة التاريخ، فيغوص في أعماقها إلى حد الثمالة، كأنما "ضرب على مسامعه"، فلم يفق من نومه رغم جميع محاولات المستشفى والأطباء وبكاء شقيقه على رأسه أشهرا. كان في سكرة العشق العذري. لقد أسكره المرقش بعشقه لأسماء، أثناء بحثه عن سر عشقه لمدينه نجران، فوجد أن هناك من سبقوه، ما جعل "مسعد" يأخذ على عاتقه البحث عن حل، بمساعدة صديقه "سالم"، المختص في قراءة الدماغ البشري بتقنية الرنين المغناطيسي، وبتوجيه من رأس الحكمة والمعرفة "أبو صالح"، يقوم هؤلاء ببناء آلة مدعومة بالذكاء الاصطناعي تعيد سرد أحداث التاريخ والحروب، وتقوم بتهيئة وتوظيف جميع المعلومات في الإنترنت لتستلهم الماضي وتعيد بناءه، وكانت الشخصية الرئيسة هي المرقش عمرو بن سعد البكري، الذي كان موضوع بحث مسعد قبل غيبوبته، والغاية كانت لأجل معرفة السبب وراء غيبوبة مسعد الذي لا يريد الإفاقة وبناء على نصيحة أبي صالح، فإن الآلة إذا اكتشفت الفكرة التي يفكر فيها ربما يتم التواصل معه، وبالتالي يمكن إفاقته من غيبوبته ومعرفة السبب لما حدث له.
توظيف الذكاء الاصطناعي
يحاول اليامي في روايته "المرقش" كتابة التاريخ بتقنية الذكاء الاصطناعي، وقد نجح في إعادة تقديم أحد أبرز قصص العصر الجاهلي بأسلوب روائي مشوق، مستعينا بأحدث ما توصل إليه العلم في العصر الحديث وهو تقنية الذكاء الاصطناعي، في محاولة لتقريب سيرة الشاعر "المرقش" بأقرب صورة واقعية، وكأنه يريدنا أن نعبر جسرا بناه بلغته الأدبية الأنيقة والمتميزة، يصل فيه الماضي بالحاضر، ويسقط التقنيات العصرية على قصص حفرتها ذاكرة التاريخ الأدبي العربي، علنا نجد أسئلة لأجوبة تركتها قراءتنا منسية في ذاكرة البحث أعواما طويلة.
يأخذنا الروائي اليامي إلى ذلك العصر، معيدا إحياء سيرة الشاعر، وقد مزج السرد الروائي باللغة الشعرية، مسلطا الضوء على أبرز ملامح قصته المأساوية والبطولية في حرب البسوس، محاولا سرد التاريخ بتوظيف خوارزميات الذكاء الاصطناعي، للوصول إلى أقرب صورة حقيقية لمرحلة ما قبل الإسلام، ويتبنى محاولة تصحيح سير الشخصيات وترابطها الزمني في ذلك الوقت، وكأنه يسعى إلى إعادة بناء التاريخ من منظور شامل، وإعادة تفكيك الحقائق وإعادة بنائها بشكل متجرد.
ويستعين بالحاضر لبث الحياة في سيرة "المرقش"، فشخصية "مسعد" في الرواية يقودها الفضول لتغوص عميقا في التاريخ، كأنما غاب عن الوعي، فيما يحاول الأطباء في المستشفى أن يعيدوه إلى الواقع طوال أشهر، لكنه كان في حالة سكرة العشق العذري.
ضحية الوفاء
وتختلط الرواية التي حملت اسم الشاعر "المرقش" بقصة بطولته وعشقه لابنة عمه "أسماء" التي حرمه منها عمه، وقام بتزويجها إلى رجل آخر في غيابه، ثم ادعى أنها ماتت، وبعد أن اكتشف "المرقش" حقيقة الأمر رحل إلى منطقة نجران، مثلما يروي عنه حفيده الشاعر المعروف طرفة بن العبد، وتأتي "الخيانة" لتنهي فصول حياة الشاعر المأساوية، حيث يغدر به أصحابه، وعندما يدهمه الموت يطلب إرسال خاتمه في وعاء حليب مع الراعي إلى حبيبته أسماء، فتعرف من ذلك أنه المرقش، وقد مات ضحية للحب والوفاء، مخلدا حقبة ثرية من الزمن، شهدت صراعات وحروبا، وكذلك منحت قصائد تاريخ بأكمله للعرب.
وتتقاطع أحداث الرواية مع عديد من الشخصيات والأحداث التاريخية التي وقعت في تلك الحقبة، مثل وقوع "المرقش" في أسر المهلهل، وتسليط الضوء على ابن شقيقه عمرو بن قميئة، وكذلك عمرو بن سعد المرقش الأصغر صاحب ابنة المنذر، وكذلك طرفة بن العبد، وامرؤ القيس.
البحث عن السبب
تتمحور قصة الرواية حول الحب العذري الذي عاشه "المرقش" مع ابنة عمه "أسماء" التي حرم منها بعد أن أجبرها والدها على الزواج من غيره، ويحاول البحث عن سر هذا العشق في مدينة نجران، والوصول إلى جميع تفاصيل القصة. ويوظف اليامي شخصية المرقش عمرو بن سعد البكري، كموضوع بحث "مسعد" قبل غيبوبته، بينما يغوص الذكاء الاصطناعي في أعماقه، أملا في الوصول إلى سبب غيبوبة "مسعد"، الذي لم يتمكن أحد من إيقاظه.
استراحات شعرية
إنها حقبة الشعر بامتياز، وقد تميز العصر الجاهلي بأرقى الشعراء وأكثرهم حضورا في ذاكرة الثقافة العربية، وقد أسسوا بالفطرة مسيرة طويلة من عمر الشعر تلونت بأنماط وأشكال مختلفة مستعينة بثراء اللغة العربية وغزارة معانيها. وقد عرف الروائي السعودي صالح اليامي كيف يوظف الشعر في خدمة روايته، ونجح في إدراج استراحات شعرية داخل نصه النثري يوصل من خلالها معاني سامية عن حب عذري عاشه المرقش مع أسماء، وكأنه يحاول إعادة تصويب البوصلة إلى حقبة شكلت مفترقا ثقافيا أساسيا للثقافة العربية، لما تضمنته من غزارة في الإنتاج الشعري بسبب وجود عديد من الشعراء، ونقاء اللغة وعمق معانيها، فقد كان الشعر السلاح الأشد فتكا، وكانت الكلمة السيف الذي ينهي أقسى المعارك.
يقول اليامي في روايته، "بعد عدة أعوام من موت المرقش، سألت الجارية زوجها الراعي، بعد أن تحايلت عليه بأنها لن تمنحه ما يريد إلا بتلبية طلبها، فسألته، ماذا أنشد المرقش قبل أن يموت، كم أنتن يا النساء لديكن ذاكرة عجيبة تراود الرجل على السقوط دائما، والعجيب بأن الهاوية فيكن لذيذة ولكن آخرها مر، لقد طلب ألا أنشدها لأحد حتى ينسى الناس قصة المرقش، فلا تنشديها لأحد".
لم يطل الأمر بالشعر حتى طاف قبائل الجزيرة وشاع أمر المرقش وانتشر شعره، في عصر كان الشعر أمضى من السيف وأسرع من البرق، وقد كان ذلك في عصر امرئ القيس وعبيد بن الأبرص، وعنترة بن شداد. ومن بني ثعلبة البكريين المرقش الأصغر وطرفة بن العبد، والأعشى، وكلهم أحفاده، وكان رفيقه وابن أخيه عمرو بن قميئة رفيق أمرؤ القيس إلى القيصر".