رواية «زهرة» .. وطن مؤقت لا وطن بديل
إذا كان الأدب في الأغلب خير معبر عن البلد الذي نعيش فيه، يجب أن نكتب إذا عما يفقده الإنسان المهمش جراء عبثية وجنون الحروب. هكذا وصفت الروائية العراقية ميسلون فاخر روايتها الجديدة التي حملت عنوان "زهرة"، والتي صدرت عن دار سطور للنشر والتوزيع، وحملت توقيع النحاتة العراقية رغد عبدالرزاق عبدالواحد على لوحة الغلاف.
"زهرة" عمل أدبي متكامل، فيه تطرح ميسلون فاخر الصراع الذي يعيشه المهاجر بين ثقافته والثقافة البديلة، وكيف يصعب عليه التخلي عن هويته المغروسة في عروقه مثل الدماء، ما يتطلب منه التفكير بكثير من الوعي والإدراك عندما يختار العيش في وطن بديل لا يشبه وطنه، ويختبر ثقافة جديدة لا تشبه ثقافته. الرواية من محض الخيال ولكنها واحدة من القصص التي تعالج بشخصياتها وأحداثها المآسي التي يعانيها أبناء المهاجرين في أوروبا والسويد في الفترة الأخيرة.
ميلسون فاخر روائية عراقية هاجرت مع عائلتها إلى السويد في 1991، وهي كاتبة تعمل في صناعة الأفلام الوثائقية وتحلم بأن تتحول رواياتها إلى أفلام ومسلسلات، تقدم في "زهرة" حلولا ورؤى تبتعد فيها عن الحلول المؤقتة التي اختارتها يوم قررت الهجرة، وتعالج قضايا يعيشها المهاجر على ضفاف وطن قد يكون قدم له كثيرا لكنه احتفظ له بصفة مهاجر تلاصق اسمه، فعاش عمره في البحث بين ماض يحمل ملامح وطن ينتمي إليه وحاضر يقدم له انتماء ناقص ووطن مؤقت.
سارة الراوية
كأنها تحاول أن تختصر آلام المهاجرين بشخصيات قصتها، تلجأ ميسلون الفاخر في رواية "زهرة" إلى اختيار "سارة" شخصية محورية وأساسية، تروي بصوتها تفاصيل الشخصيات المتفرعة للقصة، ذلك الصوت الذي لا يقف كثيرا عند تفاصيل بعض من حوله كشخصية سلمى السوداوية، أو السر وراء تحولات بعض الشخصيات المتفاعل معها كتحول شخصية زياد المثيرة للتساؤل من التشدد والانغلاق إلى الانفتاح بشدة، أو حتى شخصية فاتن وطفليها وكيفية التعاطي معهما بكثير من الوعي لفهم أي متغير يصيب حياتهما، إلا بقدر ما يتأثر به الراوي ويسهم في رسم خريطة وعيه وعرض تعقيداته. إن شخصيات رواية "زهرة" السبع حملت معها في هجرتها من أوطانها كل المآسي الثقيلة وأرثها الثقيل واستوطنت في أرض الغرب "الجنائنية" لتصطدم بروح القوانين الغربية في نظرة المشرع الغربي وفلسفة قوانينه.
سارة السويدية
تدور أحداث الرواية حول "سارة" الفتاة السويدية، ذات الأصول العراقية، التي تعمل مدرسة للموسيقى، وتحلم بالبحث عن جذورها مستعينة بشيء من الجينوم البشري، وبعض من ذكرياتها المشوشة حول أب وأم انتزعت من بينهما نتيجة للنظام الاجتماعي السويدي "السوشيال"، وعرضها للتبني من قبل أسرة سويدية، لتكون بين أب وأم لم تدرك بينهما معنى الحب والرفق الحقيقي، وتعرضها للعنصرية طيلة حياتها، وتوالي الأحداث التي تدفعها للبحث عن هويتها المفقودة.
يغلف حياة سارة قلق كبير وتتحكم بها هواجس تجربتها القاسية، وتجدها تطرح أسئلة عن سبب وجودها في كل هذه الفوضى التي حولتها إلى خيال لا يهتم بالأحلام، شبح يهيم في الفضاء. وشخصيات "زهرة" مغتربة تأتي من الجحيم العراقي نحو دول الغرب لتداوي جروحا عاشتها في أوطانها، لكنها في الأغلب ما تصطدم بوحشية القوانين الغربية وصرامتها، وهنا تحاول الكاتبة كشف النقاب عن زيف بعض هذه القوانين، وما تحمله من قسوة وشر قد تدمر حياة المهاجر وتضعف من عزيمته.
البحث عن الانتماء والسعادة
"كيف يمكنني الوصول إلى منطقة أكون فيها أكثر سعادة؟" بهذا السؤال الوجودي تحاول ميسلون أن تطرح فكرة الحب في روايتها، الحب الذي تطلب من بطلتها "سارة" قوة جبارة حتى تتمكن من الضغط على زر الفراق في قلبها وتترك "أندش" يذهب وحيدا. "شعرت بأنه لم يعد موجودا في خرائطي واحتجت أن أتحرر من كل صديد الماضي المختبئ والذي يهددني بحضوره المباغت، أحسست في هذه اللحظة أنني مستعدة لأكون زهرة التي لا تكترث لأي لبس بهويتها ولم تعد تخشى الفضيحة والعار، لأنفتح من عتمتي إلى ضوء ساطع يرمم ما يمكن ترميمه".
البحث عن الحب كالبحث عن الانتماء يحتاج إلى قوة إرادة ووعي لأن ليس كل ما نبحث عنه يمكن الحصول عليه، وليست الحقيقة واحدة أو ثابتة كمنظر الغروب والشروق، ما نراه ظلمة غيرنا يراه نورا والعكس صحيح. بالنسبة إلى ميسلون الحب طريق النجاة، مفردة استعارية نحاول من خلالها استيعاب أزماتنا النفسية بنواحيها الفكرية والروحية وبإشكالياتها الراهنة، من خلال تأمل طويل بهدف إيجاد تحليل قريب لرمزية الحب في الرواية.
اضطراب الهوية
"سارة" الفتاة العراقية المتبناة من أسرة سويدية، تعيش اضطرابا في تحديد هويتها، وكأنها لا تعرف من تكون، فالهوية تتشكل في آفاق مختلفة وربما متشابهة، وتلعب اللغة والعرق والدين والمستوى الاجتماعي دورا في تحديد موقعها، ولكنها تظل تعاني التباسات موجودة داخل أفكارنا، لأنها أحيانا مصدر إعاقة للاتقاد الإنساني. في العالم الحديث تراجعت فكرة الهويات، ولأننا نعاني حداثة عرجاء أصبحت الهوية مشكلة يكون إيجاد حلول لها صعبا للغاية، والهوية ليست ثابتة منذ ولادتنا، فأحيانا هناك هويات يتم اعتناقها أو تهميش هويات أخرى لمصالح ذاتية، وبالتالي ينتهي بها المطاف لتعريف متسق مع ما تحمله المفردة، وهي الحكم على الآخرين الذين لا ينتمون للسرب نفسه، وهو تمهيد لفكرة النبذ والكراهية والإقدام على ممارسة العنف.صراع الانتماء
تعيش "سارة" في رواية زهرة صراع الانتماء بكل جوانبه، فهي لا تعرف إلى أي فئة تنتمي، ويظهر هذا في اعتمادها على الحوار الأشبه بالمونولوج في بعض فصول الرواية، كما في شخصية "فاتن"، حيث يصبح من المنطقي وجود أسئلة متعددة بطول الحبكة كلها، لتكون بمنزلة نداءات مرشدة للبحث عن الهوية وسر الوجود. تحاول الروائية ميسلون فاخر أن تعبر من خلال شخصياتها المتنوعة إلى قراءة شبه موحدة لحال المهاجر الذي يعيش صراعا قاسيا وهو يبحث عن انتماء لا يشبهه لكنه مجبر على البقاء خلف قضبانه كونه الوطن البديل الذي رماه إليه وطنه الحقيقي.
تناقضات شخصية سارة
بعد التدقيق في طبيعة شخصية سارة والتي أدت إلى ظهور الرواية على تلك الصورة، نجدها شديدة الاهتمام بمعرفة حدود ذاتها بالنسبة إلى ما حولها، تحاول التطهر من آثار جمود واقعها ورسمه لمستقبلها "كما قالت، لا أحد يستخدم بطاقة شخص في غيابه" بالانغماس في المعاني المعقدة والشخصيات المركبة، ولا يهم بها إن كانت حركة عشوائية "كجنون سارة وأندش" أو شبه منظمة "كما بينها وبين الأصدقاء" المهم فيه بعد الرحلة الطويلة الانتباه والتوقف ومن ثم مراجعة الذات بلملمة الحواس المبعثرة، واستعادة توازنها "ومنه كان صراخها مع ماريا إبراموفيتش أداة لإراحة ذاتها".
وكأنها تحاول رسم صورة متناقضة متخذة من نفسها المحترقة من شوق عالمها الجديد، وتقرر سارة أن تصبغ شخصياتها لتضعنا في صورة تفهمنا طبيعة شخصيات الرواية، كشخصية كايسا وعلاقتها المعقدة بنفسها أو شخصية فاتن وعلاقتها الغريبة مع أقربائها، أو مسألة ما كالتدجين الذي يحيط ببعض الشخصيات خاصة زياد في مسألة تآكل هويته وكذلك مشاعره.
أوطان بديلة
أكدت ميسلون فاخر أن الهدف من رواية "زهرة" هو تسليط الضوء على معاناة العرب والعراقيين في السويد، قائلة، "قد تكون الرواية نوعا من أنواع الاستنكار أو الرفض الذي يتعرض له المهاجرون في أوطان قد تكون بديلة عن أوطانهم، ولكنها في الأساس لا تعبر عن مشاعرهم أو ثقافتهم"، وهي رواية تعبر من خلالها عن آلام العرب في الغربة، وكيف أن الهجرة القسرية التي تفرضها علينا أوطاننا تجعلنا نعيش في شبه انتماء ونكون مجرد أرقام في بلد يقدم لنا وطنا مؤقتا لا وطنا بديلا.