الإنسان والطبيعة .. لا رفاهية بعيدا عن الأصل
أضحى الإنسان يقضي وقتا أطول في الأماكن المغلقة، من البيوت إلى مكاتب العمل مرورا بالمقاهي ومحال التسوق وقاعات الرياضة... فالتنقل بين تلكم الفضاءات روتين يومي لا يفارق إنسان هذا العصر، ما جعله في حالة عزلة شبه مطلقة عن الطبيعة. فالاحتكاك بهذه الأخيرة آض استثناء، وأمرا نادر الحدوث، بفعل وتيرة حياة المدنية والتحضر، بعدما كان الأصل في مسار ومسيرة البشرية الممتد عبر التاريخ.
لكن الدراسات تفيد بقرب عودة الإنسان إلى الطبيعة، وبشكل قسري هذه المرة، فتوقعات الخبراء ترجح أن تتضمن وصفات الأطباء في المستقبل المنظور مثل هذه العبارات، "الوصفة الطبية المناسبة لك، تجول في غابة لمدة ساعة خمس مرات أسبوعيا". ولا سميا، بعد توالي الأبحاث والتجارب العلمية المثبتة لمركزية التعرض للطبيعة، ودوره في تعزيز الرفاهية لدى الإنسان، بتخفيف الشعور بالضغط والقلق والاكتئاب، فضلا عن تعزيز القدرة على التركيز والإبداع وتقوية التواصل مع الغير.
تكشف الأرقام المرتبطة بتوزيع السكان في العالم، بين الأرياف والمدن، عن دنو الموعد الذي تصبح فيه تلك التوقعات حقيقة طبية، فنسبة القاطنين في المناطق الحضرية التي كانت أواسط القرن الماضي عند 30 في المائة من إجمالي سكان الأرض، تتعدى اليوم 55 في المائة، مع ترقب وصولها إلى 70 في المائة بحلول 2050. ما يعني ارتفاعا وتضخما في أعداد الأشخاص المبتعدين عن الطبيعة، بشكل غير مسبوق، رغم الحاجة الماسة إلى الاحتكاك بها، تخفيفا من وطأة السجن الاختياري داخل الأبنية والأماكن المغلقة.
تاريخيا، بدأ الاهتمام ينصب على موضوع العلاقة بالطبيعة خلال الـ100 عام الأخيرة، مع اشتداد ثقل ووقع الحياة المعاصرة على الأفراد، فوضع الفيلسوف الأمريكي كتاب "الحياة في الغابة" (1854)، وتناسل بعدها سرد الأشخاص لتجاربهم العميقة مع الطبيعية، مؤكدة بالإجماع أن الإنسان يتمتع بصحة جسدية وعقلية أفضل عندما يكون في اتصال مع الطبيعة، وبلغ الأمر عند ثلة من هؤلاء مستوى الحديث عن قدرة الطبيعة على تطوير أدمعتنا.
بذلك، يصبح الوقت مع الطبيعة ضرورة لإنسانيتنا وليس مجرد رفاهية، لتخفيف تأثير ضغوط الحداثة في حياتنا، فمن جملة ما يعنيه قضاء وقت أكبر في الطبيعة استعادة بعض التوازن، عن طريق تصريف هرمون الكورتيزول، الحاضر بقوة في يومياتنا الشاقة، المتسبب الأول في زيادة التوتر ورفع الإجهاد، من خلال تفاعل الدماغ البشري الإيجابي متى كان في مكان تستخدم فيه الحواس الخمس دفعة واحدة، حيث يعيد شحن الأحاسيس، ويضمن التمتع بحياة أكثر صحة وسعادة.
الطبيعة إذن مورد مجاني للراحة الجسدية والنفسية، وقبل ذلك للعلاج والاستشفاء، في الثقافة الفنلندية على سبيل المثال تعبير "أرواح الغابة" في إشارة إلى تأثيرها القوي في الإنسان، لذلك يواظبون، منذ قديم الزمان، على عادة وطقوس التخييم، "على الإنسان أن يمارس التخييم، ويتحد مع الطبيعة كما الإنسان القديم، وقد تجلى تأثير ذلك في إدراكه وقدراته المعرفية وتطوره الثقافي والجسماني".
ولدى اليابانيين طقس "شينرين يوكو" Shinrin Yoku، وكلمة "شينرين" باللغة المحلية تعني الغابة، أما "يوكو" فهي مرادف للاستحمام، ليكون حاصل الجمع بينهما "الاستحمام في الغابة". صحيح أن المصطلح لا يعني الاستحمام بالمعنى الحقيقي، وإن كان يوحي له من خلال عملية إغراق الحواس بين الأشجار، بممارسة التنزه وسط الغابات، مع التركيز على البيئة الطبيعية المحيطة بالممارس، قصد تحفيز المشاعر الإيجابية وإشاعة جو من الهدوء والسلام في دواخل الإنسان.
بداية عقد الثمانينيات، شرع أحفاد الساموراي في الاغتسال بالطبيعة، باستقطاع بعض الوقت للاستمتاع والهدوء والتواصل مع الطبيعة، وذلك كرد فعل لارتفاع نسبة التمدن في البلد، حيث يعيش نحو 80 في المائة من السكان في المناطق الحضرية، فضلا عن قضاء اليابانيين 90 في المائة من وقتهم داخل المباني، ما عرض كثيرا منهم لما يعرف بـ"اضطراب نقص الطبيعة". فانبثقت فكرة الاغتسال من درن المدينة بالهروب إلى الطبيعة، في مواعيد منتظمة، ابتغاء الهدوء والسكون بإعطاء أجسادهم وعقولهم فرصة للتباطؤ، بعيدا عن صخب وضوضاء الحياة في الحواضر.
تدريجيا، أضحى الأمر ممارسة طبية شائعة في اليابان، بعدما تبين أن تحويل طقس الاستحمام في الغابات إلى روتين، قلب حياة كثيرين رأسا على عقب. عجل ذلك بظهور "جمعية طب الغابات" في اليابان، كنمط من أنماط الطب الوقائي وليس العلاجي، التي تدافع عن شعار "تعلم فن الحفاظ على الصحة أو استعادتها بفضل العلاج بالطبيعية". فضلا عن الحرص على تجنب استعمال الأدوية في العلاج، إذ يستعاض عنها في التداوي بعناصر الطبيعة الأربعة: الشمس والماء والهواء والأرض.
سيسعد كثير من هواة التنزه بممارستهم طقس الاستحمام ربما دون وعي منهم بذلك، لكن المسألة ليست بتلك البساطة، لأن حصص المشي في المتنزهات أو الحدائق رفقة الحيوانات أو مع الهواتف للاستماع للموسيقى... أو غير ذلك من مبطلات شينرين يوكو. فالقاعدة الذهبية في هذه الممارسة هي "المشي ببطء وبلا هدف، بحيث يكون جسمك دليلك، "استمع إليه حيث يريد أن يأخذك. اتبع أنفك، وخذ وقتك. لا يهم إذا كنت لا تصل إلى أي مكان، فأنت لا تذهب إلى أي مكان، بل تستمتع بالأصوات والروائح ومعالم الطبيعة، وتدع الغابة تستحوذ عليك".
لا بديل للإنسان عن العودة إلى الطبيعة، فعلاقته بها تتعدى حدود الغذاء والحماية... لتصبح علاقة فطرية، يمتزج فيها الصحي بالوجداني والفكري بالمعرفي، فأنصار هذا المذهب وضعوا معادلة واضحة مفادها أن رفاهية إنسان القرن الـ21 قرينة الرجوع إلى الأصل، أي الطبيعة، وتعافيه النفسي والفيزيولوجي وحتى الروحي وثيق الصلة بالوقت الذي يقضيه مع الطبيعة.
تبقى الخطوة الأولى أكبر عائق، بحسب عشاق "الصمت المبارك" - كناية عن تأثير الطبيعة فيهم، فالأمر لا يتعدى ثلاث مراحل أساسية: استرخاء ثم اندهاش فإدمان، أو بتعبير أحدهم: "الطبيعة كما الكافيين، تسبب حالة إدمان لكثيرين، كلما تعرضت لها ستريد مزيدا منها. ما عليك سوى فتح بابك والانطلاق خارجا".